الخميس، 20 مايو 2010

سينما مختلفة

يرتبط المُختلِف بالمُختلَف عنه، مقايسةً على الأقل.. فأن نقول: «سينما مختلفة»!.. هذا يستدعي حكماً وبالضرورة القول: عما تختلف؟.. وبم تختلف؟.. وكم تختلف؟.. وكيف تختلف؟.. ولماذا تختلف؟..
وطالما أن للاختلاف، عموماً، مستويات متعددة، فهو في مجال السينما يتعلق بمحدداتها الأساس: الفنية البنائية، أولاً، والمضمونية الفكرية، تالياً.. فالسينما فن سمعي بصري، فضلاً عن كونها خطاب فكري، ورؤية، ومقولة.. وبالتالي فالاختلاف في حالتها يتعلق بواحدة من هذه المرتكزات على الأقل، أو جميعها معاً..
وللتفصيل نقول: إن «السينما المختلفة» قد تكون «مختلفة» لأنها تقدم بنية فنية مختلفة على صعيد الصوت والصوت (السمعي البصري)، أو على صعيد البناء الفني (التصوير والمونتاج والتركيب)، أو على صعيد الخطاب الفكري (الرؤية والمقولة والموقف)..
من المُتعارف عليه، ولو ضمنياً، أن «السينما المختلفة» هي «مختلفة» عن «السينما السائدة»، أو «التجارية»، أو «الرائجة»، أو«الهابطة»، أو عن مقولة: «السينما من أجل السينما».. فثمة من يرى أن «السينما المختلفة» ضد مقولة «الفن الفن»، أو «الفن للمتعة».. إنها مع الفن من أجل الحياة، من أجل الإنسان وقضاياه..
«السينما المختلفة» هي كذلك مختلفة، لأنها تحمل أطروحات فنية، أو أطروحات فكرية، أو مواقف سياسية اجتماعية ثقافية فكرية.. تمتلك رؤية تجاه الذات والعالم، نحن والآخر، وجدل العلاقة بين الفن والحياة..
فنياً، يرى النقد أن «السينما المختلفة» لا تكون إلا إذا كانت ذات مشهدية بصرية غنية بالدلالات والرموز والعلامات، وذات تركيب فني وبنائي معقد جداً (وربما بسيط جداً).. على الرغم من أن هذين الشرطين، يجعلانها عصية على التلقي السريع.. خاصة للمشاهد العادي..
فكرياً، يرى النقد أن «السينما المختلفة» لا تكون إلا إذا كانت جريئة، مغامرة، مفاجئة، صادمة، مدهشة.. سينما تتناول المسكوت عنه، وتدخل في المحظور، وتفضُّ الصمت، وترجّ الساكن.. على الرغم من أن هذا يثير كلاً من السلطات المنغلقة المستبدة، والفكر المُحافظ، والمشاهدين التقليديين..
على هذا، يبدو أن من قدر «السينما المختلفة» أن لا تكون على شيوع جماهيري واسع، ليس لأنها تقدم الجديد والمختلف عما اعتاده المشاهد، فقط، بل لأنها لا تتوافق مع كسل التلقي، السائد لدى الجمهور، خاصة العربي، وبالتالي فهي تحتاج من المشاهد أن يمارس التلقي الفاعل والمتفاعل.. في «السينما المختلفة» يصحُّ القول إن المشاهدة هي عملية إعادة إنتاج النص السينمائي، وتفكيكه، واستخلاص مغازيه، واستكناه دلالاته ومراميه..
القليل جداً من أفلام «السينما المختلفة» حققت نجاحاً جماهيرياً، وقت عرضها.. ولكن الكثير من هذه الأفلام أُعيد الاعتبار إليها بعد شوط من الزمن.. ويمكن القول إن «السينما المختلفة» سابقة لزمن عرضها، ولذائقة المتلقي..
«السينما المختلفة» تبني «اختلافها» وتراكم «حضورها» بأناة وصبر.. وهي لا تستطيع مقارعة «السينما السائدة» الآن!.. ولكن «السينما المختلفة» تبقى عبر التاريخ، بينما تذرو الرياح «السينما السائدة» وتحيلها للنسيان.. ولهذا فإن أعظم أفلام السينما الباقية في التاريخ، تنتمي لنسق «السينما المختلفة».. أفلام نُبذت وأُقصيت، ثم أستُعيدت واحتُضنت.. (خذ «المومياء»، أو «باب الحديد»، مثلاً)..
لا تقاس «السينما المختلفة» بمدى المتعة الآنية في تلقيها.. وبالتالي لا يجوز أخذ رأي المشاهد العادي بها.. آفة المشاهد العادي أنه يقيس نجاح الفيلم بمدى قدرة هذا الفيلم على إثارة الضحك، أو البكاء، أو الرعب، أو مداعبة الرغبات، وإثارة الغرائز، أو ما يشبه هذا من حواسه، أو ردود أفعاله.. وهنا يكمن تحدي «السينما المختلفة»، إذ أنها لا تعبأ بكل هذا، وتبدو كأنها تسير عكس التيار..
تزداد معاندة «السينما المختلفة» في مجتمعات تعاني من الأمية والجهل والتخلف الفكري وتدنّي الذائقة الجمالية، وفقر المعرفة البصرية.. تزداد معاندة «السينما المختلفة» في مجتمعات ذات تاريخ طويل من الثقافة الشفاهية؛ ثقافة تتعلق بالثررة والحكي.. ففي مجتمعات فقيرة بصرية، قليلة الرؤية والتأمل، نحتاج إلى وقت وصبر حتى يمكن تحويل المتلقي من مستمع (للخطب العصماء، أو الحوارات الطويلة)، ومن قارئ (للمعلقات، أو السير الشعبية).. إلى مشاهد متأمل للصورة، استقبالاً وفهماً وتأويلاً..
تزداد معاندة «السينما المختلفة» في مجتمعات تعاني من الاستبداد والديكتاتورية، مجتمعات تتعلق بالقائد الفرد الملهم، والزعيم المخلّص.. فأبناء هذه المجتمعات غالباً ما يبحثون عن البطل النجم (المُعادل الفني للزعيم القائد)، ويتعلَّقون به.. بينما «السينما المختلفة» لا تحتفي بالنجوم ولا بالأبطال..
«السينما المختلفة» هي سينما القضايا الكبرى تارة، وسينما التفاصيل الصغيرة تارة أخرى.. وقليلاً ما تكون سينما الحدوتة، والحكاية، والسرد الخيطي..
إذا كان من هدف في تناول «السينما المختلفة»، فهو إتاحة الفرصة للمشاهد لمعرفة أن هناك نمط آخر من السينما؛ نمط «يختلف» عما اعتاده من «سينما تجارية» أمريكية أو هندية أو مصرية.. وبالتالي دفع المشاهد لتلقي هذه السينما، والانتباه إلى متعة المعرفة الجمالية، والمعرفة الفكرية.. وليس المتعة الحسية المباشرة..