الخميس، 8 يوليو 2010

غسان كنفاني.. سينمائياً!..

كان غسان كنفاني قاصاً، وروائياً، وفناناً تشكيلياً، وكاتباً مسرحياً، وناقد أدبياً، وباحثاً ودارساً، وكاتباً سياسياً، وصحفياً.. أيضاً.. فلماذا لم يقترب من السينما؟..
لا شك أن غسان كنفاني شهد بدايات السينما الفلسطينية، التي كانت تنمو في كنف مؤسسة الثورة الفلسطينية، التي كان غسان أحد رجالاتها.. «ألم يكن عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟..»!.. وربما كان غسان أحد قيادات الجبهة الذين التقوا، ذات وقت، لمشاهدة فيلم «نهر البارد» التجربة السينمائية الأولى والمميزة، التي أنتجتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بإخراج العراقي قاسم حول، عام 1971.
كان فيلم «نهر البارد» تجربة سينمائية مميزة، ومثيرة، إذ أن المخرج قاسم حول، القادم من العراق محملاً برؤى وأفكار، وطموحات سينمائية، أراد من خلال هذا الفيلم تبيان أهمية وقدرة النص السينمائي على القول والتعبير!.. وأن يضع تلك التجربة بين أيدي قيادة الثورة الفلسطينية، فاختار الحديث عن المخيم الفلسطيني، وعن دور المخيمات واللاجئين، في المعاناة والثورة، على السواء.. ومن المعروف أن المخيمات واللاجئين كانت الهم الذي يشغل غسان في القصة والرواية.. فهل لم تحرّك تلك التجربة السينمائية شيئاً في اهتمامات غسان نحو هذا الفن الجديد في الميدان الفلسطيني؟..
غسان كنفاني، الناطق والمسؤول الإعلامي، والمتحدّث بطلاقة بأكثر من لغة، عرف مهمة الجلوس أمام الكاميرا السينمائية، الوسيلة الوحيدة تقريباً، التي كانت تسجل المناسبات الفلسطينية، خاصة المؤتمرات الصحفية، والبيانات السياسية، والانطلاقات الفصائلية.. فلماذا لم تقدر تلك الكاميرا السينمائية على إشعال نار الغواية في جوانحه، وتدفعه للتعامل معها أكثر من الشكل «البروتوكولي» المرتبط بمهمة، وطبيعة عمل، لا بد منه؟..
غواية السينما!..
المثير في الأمر، أنه منذ العام 1968، وكان غسان قد أنجز غالبية أعماله الروائية والقصصية، بدأ الاتجاه الملفت للتعامل، فلسطينياً وعربياً، مع القضية الفلسطينية، من خلال فن السينما؛ ففضلاً عن ولادة سينما الثورة الفلسطينية، ظهرت في لبنان أفلام أنطون ريمي «القدس في البال» 1967، و«فداك يا فلسطين» 1969، وفلاديمير تماري «القدس» 1968، ورضا ميسر «الفلسطيني الثائر» 1969، وغاري غاربيديان «كلنا فدائيون» 1969، وسمير نصري «الجنوب في براثن الأعداء» 1970..
كما ظهرت في سوريا أفلام نبيل المالح «إكليل الشوك» 1969، و«نابالم» 1970، وقيس الزبيدي «بعيداً عن الوطن» 1969، و«الزيارة» 1970، وفيصل الياسري «نحن بخير» 1969، ونبيل المالح ومروان شاهين ومروان مؤذن، في ثلاثية «رجال تحت الشمس» 1970.. وعرف الأردن العديد من المحاولات السينمائية، بدءاً من فيلم «وطني حبيبي» لمحمود كعوش 1964، وأفلام علي صيام «زهرة المدائن» 1967، و«الخروج» و«كتاب لك» 1968، و«الأرض المحروقة» 1969، وسمير حسن في «بعد النكسة» 1968، وعدنان الرمحي في «عشرون عاماً، لقاء في عجلون، الشريف حسين» 1969، ومصطفى أبو علي في «الحق الفلسطيني» 1968، و«ريبورتاج» 1969. وصولاً إلى فيلمي عبد الوهاب الهندي «الطريق إلى القدس» 1969، و«كفاح حتى التحرير» 1969، الروائيين الطويلين..
كل هذا ناهيك عن التحولات الكبرى التي كانت السينما المصرية قد بدأت تشهدها، منذ ثورة تموز 1952، وتصاعدت بعد النكسة الحزيرانية 1967، ووصلت إلى ذروتها بتأسيس «جماعة السينما الجديدة» 1968، والأفلام الروائية والتسجيلية التي هي أكثر من أن نعدها.. وكذلك بالتوافق مع شروع العديد من وفود السينمائيين الأجانب، ليس من العالم الاشتراكي، فقط، بل من أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، بالتوجّه إلى قواعد الثورة، وفي مقدمتهم المخرج جان لوك غودار، ومانفريد فوس، ولويجي بيريللي، وفرانسيس روسير..
كل هذا!.. فلماذا لم يتلوَّث غسان كنفاني بغواية السينما، ولم يتعامل معها، بما هو أكثر من مستوى المشاهد المتابع، أو المراقب عن كثب، ودون أن يُؤثر عنه أنه كتب عن السينما، أو كتب لها؟!..
إنه أمر غير مفهوم تماماً!.. ولا نستطيع إحالته إلى ما يمكن أن يتحدَّث عنه بعض النقاد السينمائيين اليوم، من تهافت في مستويات تلك الأفلام، وضعفها الفني، أو عن خطابها السياسي المباشر، خاصة وأنه من المأثور عن غسان ابتعاده عن الشعار السياسي المباشر، في غالبية أعماله الإبداعية، ومحاولته الجادة في التأمل في الشأن الفلسطيني، دون أن يفلت تماماً من رؤيته الذهنية المضمّخة بالمقولات الأيديولوجية، على الأقل في مقدمته القصيرة، التي وضعها لروايته «أم سعد» 1969، أو في قصته القصيرة «قرار موجز»..
بل لابد من بحث أسباب عزوف غسان كنفاني عن السينما في مجال آخر، لا علاقة له بكل ذلك.
غسان.. حالة شغف
كان غسان كنفاني في حياته القصيرة (36 عاماً) أنموذجاً طافحاً لحالة الشغف. نستطيع الانتهاء إلى هذا الاستنتاج من خلال العديد من التفاصيل المتفرقة، التي نلتقطها في الحياة اليومية لغسان، كما من ذلك التناثر الجميل على العديد من الأنساق الإبداعية التي جرَّبها، من القصة القصيرة، إلى الرواية، إلى المسرح، إلى الفن التشكيلي، وربما الشعر.. ومن البحث والدراسة، إلى النقد الأدبي، إلى الكتابة الصحفية والتحليل السياسي، إلى الكتابة الساخرة..
من تراه ينتبه إلى أن غسان كنفاني كان مُولعاً بشراء المحار، خلال إقامته وعمله في الكويت؛ وهو ما يشبه تماماً ولع البعض بشراء أوراق اليانصيب، اليوم؟!.. بل من تراه يجيب على سؤال إذا ما كان غسان قد انتقل إلى شراء طراز هذا الأوراق في لبنان، نظير ما كان يفعله من شراء المحار في الكويت؟!..
هل هذه أسئلة تافهة؟.. ربما!.. لكنها حتماً تفيد في قراءة طبيعة تلك الشخصية الفذة والاستثنائية، خاصة إذا ما ربطناها بحقيقة أن غسان كنفاني كان على اضطرار للتعايش مع مرض السكري، ومع وخزات حقن الأنسولين، منذ فترة مبكرة في حياته.. وحقيقة أن غسان شهد محنة النكبة واللجوء، وهو غرٌّ في الثانية عشرة من عمره (غسان من مواليد عام 1936)، واضطر للخوض في كثير من التفاصيل المؤلمة في حياة الصبا والفتوة واليفاعة.. كما ذكر شقيقه الأديب عدنان كنفاني في كتابه «صفحات كانت مطوية من حياة غسان»..
هكذا، يمكننا القول، ربما بجرأة غير مسبوقة، إن غسان بما كان فيه، وبما كان عليه، كان حالة من الشغف، بالحياة، والإبداع!.. بل قُلْ بالرغبة الهائلة في تحويل حياته إلى حالة من الشغف الإبداعي، ولعله كان يرى أن حياته المهددة بالمرض، في كل لحظة، لا قيمة لها إلا إذا تحوَّلت إلى معطى حياة تعبيرية، وهو ما يمكن أن يفسّر ذلك الإنتاج الإبداعي الكبير، الذي يمكن لرجل غادر الدنيا في السادسة والثلاثين، أن ينجزه.. خاصة وأنه لم يترهبن في محراب الأدب والإبداع، بل تزوّج «السيدة آني كنفاني»، وأنجب من الأولاد «فايز وليلى».. وعاش حالة عشق ما مع الأديبة السورية غادة السمان، أظهرتها رسائله التي نشرتها هي فيما بعد!.. وكان له من الأصدقاء والشؤون والاهتمامات والأعمال والمشاريع، ما يليق بأي رجل عادي، غير متفرغ لشأن خاص، بعينه..
لعل غسان لم يأبه إلى فن السينما بسبب أنها من طراز العمل الجماعي، الذي لا يقوم إلا باجتماع عدد من المبدعين والعاملين والفنيين والتقنيين، وغسان كان، على ما يبدو، حالة من الشغف، والإبداع الفردي!.. إنه رجل أمل وتأمّل، وهذا ما تعكسه، بقوة، أعماله الإبداعية التي أنتجها، والأفكار التي اشتغل عليها.. ولعلي هنا أشبهه تماماً بذلك الكاتب الذي كان ينتظر قدوم «أم سعد» كل ثلاثاء، ليكتشف على يديها الجديد. والذي لم يذهب إلى مخيمها سوى مرة واحدة، عندما تغيبت، ليكتشف أيضاً، الوجه الآخر منها..
غسان.. جدل الواقع والمتخيل
من فيلم (المخدوعون)
في أعمال غسان كنفاني كافة، يمكن للمرء الوقوع على حقيقة لا مراء فيها، وهي حقيقة ذلك الجدل العميق بين الواقع والمتخيل. وربما من الصعب الحديث عن أيٍّ من أعمال غسان الإبداعية، دون تلمّس ظلال الواقع تتوارى وراء الأحداث والشخصيات.. وهذا لا ينتقص أبداً من حقيقية القدرة الإبداعية، والطاقة التخييلية، التي كان غسان يمتلكها، بشكل استطاعت الارتقاء بالأحداث والشخصيات من مستواها اليومي، وتجربتها الحياتية الخاصة، إلى مستوى المعطى الدلالي التعبيري، عن شعب وقضية، وأمة..
في جدل الواقع والمخيلة في أدب غسان، ثمة من يقول إن حكاية دخول الخزان، في رواية «رجال في الشمس» لها أصل حقيقي. وأن شخصيات أو نماذج ثانوية، وردت في تلك الرواية، مثال زكريا الذي ترك أخاه مروان ليغوص في المقلاة، ووالده الذي ذهب للزواج من امرأة عاجزة، في موقف وانتهازي وخلاص للذات، إنما هي شخصيات حقيقية.. التقطها غسان، وحوَّرها، وطوَّعها، لتخدم البنية الروائية، والمقولة الفكرية في أعماله..
ويمكن للمرء، القارئ بتمعّن لمنجز غسان كنفاني الإبداعي، أن يلاحظ الدائرة الضيقة، إلى حدّ ما، التي تدور فيها شخصياته، يدلّ على ذلك التكرار في الأسماء ذاتها، بين عمل وآخر «من طراز أسعد وسعد وسعيد وزكريا وقاسم وقيس وأبو قاسم وأبو قيس».. وهو ما يمكن أن يؤشّر، في أحد وجوهه، إلى حقيقة المرجعيات الواقعية لتلك الشخصيات، وتدخّل الواقع في حدود المخيلة، وارتباط الشخصية بالاسم!.. وإلى أي درجة كانت تترسخ تلك الشخصيات في ذهنه، ومرجعياته..
لكن الحالة الأبرز، والأكثر وضوحاً في تداخل الواقع والمخيلة في أدب غسان كنفاني، تتجلّى في شخصية أم سعد، التي كانت الحامل الدرامي الروائي الأساس في روايته «أم سعد»، دون أن تفقد أشكالاً متعددة من الحضور في قصصه القصيرة، أيضاً.. إذ لا بد من الانتباه إلى أن حضور أم سعد لم يكن لدى غسان كنفاني حكراً على الرواية التي حملت اسمها، بل إنه أدخلها في نسيج أعماله الأخرى، مرافقة لسعد وأسعد وسعيد، وخيمة الثورة التي ستفرق عن خيمة اللجوء.. وفي سياق الإشارة إلى انتقال الفلسطيني من وضعية اللاجئ إلى الفدائي الثائر..
لا خلاف اليوم على أن «أم سعد» هي التحوير الروائي لشخصية «أم حسين» الحقيقية، وأن الأديب غسان التقطها من الواقع، وأعاد صياغتها على نحو درامي روائي، وحمَّلها من المقولات ما يريد هو، حتى أنها بدت في الرواية التي حملت اسمها «أم سعد» أكثر ثقافة ووعياً، وقدرة على النفاذ إلى عمق الأشياء من شخصية الكاتب ذاته!.. وذلك وإن كان يتوافق مع المقولة الأيديولوجية التي صدَّرها الكاتب في تقديمه للرواية في حديثه عن الطبقات المكافحة، إلا أنه لا يملك مبرره الدرامي، ولا يجيب عن سؤال أثر تلك الأعمال الخدمية على المخيم وناسه وقيمه.. هلا انتبهنا إلى أن أم سعد كانت تعمل ماسحة إدراج، وفي تنظيف البيوت؟.. ومن تراه ينكر اليوم الأثر المرعب «سلبياً» الذي أنتجه طراز هذا النسق من العمل الخدمي على المنظومة القيمية الأخلاقية والسلوكية في المخيمات؟..
نعود للقول، إن غسان كنفاني بدا على هيئة حالة من الأمل والتأمل.. حالة من الشغف، التي أرادت بفرادتها الإبداعية، وقدرتها التعبيرية، الاتكاء على فرديتها في سبيل الارتقاء بالفلسطيني من مستوى الإنسان اليومي الحياتي إلى مستوى المقولة الفكرة.. ولعل ذلك ما جعل صفة غسان باعتباره عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تأتي في ثنايا قائمة التعريفات المتعددة، جداً له.. ونفتقد لصفة السينمائي فيه تماماً..
السينما تقتفي أثر غسان..
من فيلم (السكين)
لم يشتغل غسان في السينما.. نعم!.. بل ربما لم يرَ أيَّاً من الأفلام التي صيغت عن رواياته، وذلك على الرغم من أنه وقّع عقدي تحويل روايتين له، على الأقل، هما رواية «ما تبقى لكم» 1966، و«رجال في الشمس» 1963، إلى فيلمين روائيين طويلين، هما على التوالي فيلم «السكين» لخالد حماده 1971، و«رجال في الشمس» لتوفيق صالح 1972.
استشهد غسان يوم الثامن من تموز عام 1972، وهذا ما يعني أنه عاش بضعة أشهر، بعد الانتهاء من العمليات الفنية للفيلمين، وجهوزيتهما للعرض.. فمن المؤكد أن فيلم «المخدوعون» كان قد أصبح جاهزاً للعرض، منذ الشهر الأخير في عام 1971، وكذلك بصدد فيلم «السكين».. فهل لم يكن غسان مستعجلاً لمشاهدة الفيلمين اللذين صيغا عن روايتيه؟.. بل لماذا لم يقم بكتابة سيناريو وحوار أيّ من الفيلمين؟.. ولماذا لم يقم بإسناد تلك المهمة لمن يختاره هو من الأدباء، وترك العملية لمخرجي فيلميه على السواء؟.. فالمخرج خالد حماده كتب سيناريو وحوار فيلمه «السكين»، وتوفيق صالح كتب سيناريو وحوار فيلمه «المخدوعون»..
ثمة من يقول إن غسان ما كان قادراً على الحضور إلى دمشق، لأسباب سياسية تتعلق بكونه عضواً في حركة القوميين العرب «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كانت الجناح الفلسطيني العسكري لها».. وثمة من يقول إن الأفلام ما كانت قادرة على السفر إليه في بيروت!.. حسناً، ربما يصحُّ هذا على مستوى تبرير عدم مشاهدة غسان للفيلمين، فما المبرر إذاً لعدم مشاركته في كتابة السيناريو والحوار، أو الإشراف عليه، أو الاهتمام بحضور التصوير؟.. مع ملاحظة أن جزءاً كبيراً من فيلم «المخدوعون» تمَّ تصويره في العراق..
مضى غسان كنفاني شهيداً، وترك خلفه فيلمين أُعدَّا عن روايتين له، لم يشاهد الفيلمين، ولا اهتم بمتابعة العمل فيهما.. وإذا كان الفيلمان حققا مستويين متفاوتين من البراعة، فإن السينما التي لم يبدُ أن غسان قد اهتم بها في حياته، شاءت الاهتمام به بطريقتها الخاصة، واقتفاء أثره في أفلام تتالت طيلة ثلاثين سنة مضت على رحيله..
(خلال مهرجان مسقط السينمائي الدولي 2008، التقيتُ المخرج توفيق صالح، فأكد لي أن غسان كنفاني شاهد نسخة من فيلم «المخدوعون»، من خلال نسخة حملها المخرج شخصياً إلى بيروت حيث كان غسان)!..
رواية غسان.. سينمائياً..
المخرج توفيق صالح
«السكين» الفيلم الروائي الطويل، الذي أعده المخرج خالد حماده، لصالح المؤسسة العامة للسينما السورية، عام 1971، كان أول فيلم روائي طويل يتمُّ إنجازه عن أدب غسان كنفاني، من خلال الرواية التي حملت عنوان «ما تبقى لكم»، والتي كتبها في العام 1966. وبمقدار ما كانت الرواية معقدة وصعبة، إذ اعتمد فيها غسان على التجريب الفني، من خلال تحطيم الزمان والمكان، والانتقالات المتعددة بينهما، واستثمار الدلالات الرمزية العميقة الغور، واستنطاق الأشياء بعد أنسنتها.. بالمقدار ذاته كان على الفيلم، الذي حرص المخرج على الأمانة الأدبية التامة له، أن يواجه سؤال النجاح، الأمر الذي أنتج آراء متفاوتة، بل متناقضة، تجاه الفيلم، ففي حيت اعتبر الناقد السوري محمد الأحمد أن فيلم «السكين» واحداً من أهم الأفلام السورية، فهناك من رأى أن الفيلم لم يستطع الارتقاء إلى مستوى الرواية، ونحن نعتقد أن كليهما على حق، إذ لا يجوز في رأيينا المقارنة بين الوسيط الأدبي «الرواية» والوسيط السينمائي «الفيلم»، فلكل منهما أدواته، وطرائقه في التعبير..
لكن فيلم «المخدوعون» الذي أخرجه المصري توفيق صالح، للمؤسسة العامة للسينما في سورية، عام 1972، بعد فشله في الحصول على موافقة المؤسسة العامة لسينما في مصر، لإنتاجه، منذ العام 1965، فقد حصل على العديد من الجوائز، وأهمها التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج 1972، والجائزة الأولى لمنظمة السينما الكاثوليكية 1975، فضلاً عن الاحترام والتقدير الذي ارتقى إلى أن اعتبر الفيلم «رائعة كلاسيكية من السينما العربية» ووصف عمل توفيق صالح في هذا الفيلم بأنه «إخراج حاذق وتصوير نضر بالأسود والأبيض» وأن الفيلم «واحد من أفضل درامات التشويق في السينما العربية»..
وفي العام 1982 بادرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، من خلال ما أسمته يومها «مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي» إلى تحقيق الفيلم الروائي الطويل اليتيم في إطار سينما الثورة الفلسطينية، وذلك عندما أسندت إلى المخرج العراقي قاسم حول مهمة إخراج فيلم «عائد إلى حيفا» عن رواية غسان التي تحمل ذات الاسم، ويمكن القول إن الآراء اختلفت حول هذا الفيلم، ومستواه الفني، على الرغم أن المخرج استعان بقيس الزبيدي في المونتاج، وزياد الرحباني في الموسيقى، ومجموعة من الممثلين اللبنانيين والسوريين من طراز حنان الحاج علي، وبول مطر، وجمال سليمان، والألمانية كريستين شور.. وفي رأينا أن الفيلم كان مرتبكاً، لا يرتقي إلى الطموح.. إخراجاً وتمثيلاً، مع إدراكنا لصعوبة الظروف، وضعف الإمكانيات المتوفرة..
وفي العام 1995، قام المخرج الإيراني سيف الله بالعمل على رواية «عائد إلى حيفا» مرة أخرى ليقدِّم فيلمه «المتبقي».. وهو إذ استعان بطاقم من الممثلين السوريين أمثال جمال سليمان وجيانا عيد وسلمى المصري وعلاء الدين كوكش وغسان مسعود.. وغيرهم من الممثلين والفنيين والتقنيين، وقام بتصوير فيلمه في مدينة اللاذقية توأم مدينة حيفا، فقد صنع فيلماً تلتبس هويته بين العربية والإيرانية، إذ رأينا نسخة ناطقة بالعربية وأخرى مدبلجة بالفارسية..
ولكن السؤال الأهم، الذي يثيره فيلم «المتبقي» هو إلى أيّ مدى يحقُّ لمخرج سينمائي أن يغيّر في جوهر الحكاية، ومنطق الرواية الأدبية، التي يعتمد عليها؟.. ففي حين أراد غسان كنفاني البحث في مسألة كون «الإنسان قضية»، وذلك من خلال حكاية تحوّل «خلدون» الفلسطيني، الذي تُرك، وإن قسراً، رضيعاً ليتربى في كنف أسرة يهودية، فأصبح جندياً صهيونياً بامتياز اسمه «دوف»!.. فإن المخرج الإيراني سيف الله داد، غيّر في جوهر الحكاية، وسياقاتها، ليجعلها قصة كفاح الفلسطينيين، وليبني في فيلمه نشيداً للكفاح المسلح الفلسطيني، لم يكن في بال غسان كنفاني التطرّق إليه، في هذه الرواية، بل كان همه إثارة السؤال حول من هو الصهيوني؟.. ومن هو الفلسطيني؟..
غسان.. ملامسات سينمائية..
لن نقول إن استشهاد غسان كنفاني، بتلك الطريقة الفاجعة الغادرة، تماماً بمتفجرة وضعها أعداؤه في سيارته الواقفة أمام بيته في الحازمية ببيروت يوم 8/7/1972، فطار مع انفجارها هو وابنة أخته لميس.. لن نقول إن ذلك لم يكن له أثر ما في إضفاء المزيد من الألق على غسان وأدبه، وإشاعة المزيد من الاحترام والقداسة، مدعومة بشغل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، على إعلائه باعتباره أحد رموزها!.. ولكننا سنقول، في الوقت ذاته، إن مرَّ السنين أثبت أن دم غسان كان يمكن له أن يجف، وأن ثأره كان يمكن له أن ينطفئ، وأن ذكراه كان يمكن لها أن تتوارى في ثنايا قوائم عشرات الآلاف من أسماء الضحايا الفلسطينيين، لولا أن إبداعه الثرّ أثبت أنه لا يمكن أن ينضب، مهما تعدّدت القراءات التي تمرّ عليه، وعلى الرغم من انطواء نيف وثلاثين سنة على نزف دمه وحبره، على السواء..
كأنما غسان كنفاني كان يكتب بحبر يرتقي إلى مستوى الدم الذي لا يجف، فبقي شاباً ناهضاً على الرغم من بلوغه السابعة والستين، اليوم. إنه ما زال، حتى اليوم، يحتفظ بملامح ابن السادسة والثلاثين، نظراته الآملة والمتأملة، شعره الأسود، والشارب الأثير.. فقد عفاه الله من قصّه على إيقاع تحدي الفنان ناجي العلي..
وغسان، الحاضر على الرغم من أنف الغياب، سيتجدد حضوره في المنتج السينمائي، ليس فقط على الطريقة الاحتفائية التي صنعها المخرج قاسم حول، في فيلمه «لن تسكت البنادق»، الذي أنتجته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عام 1973، لتبني وثيقة بصرية مستندة إلى خطاب جورج حبش، الأمين العام للجبهة، في الذكرى الأولى لاستشهاد كنفاني.. أو في فيلمه «غسان كنفاني.. الكلمة البندقية» من الإنتاج نفسه، وفي العام ذاته، حيث نجد وثيقة بصرية نادرة، يتحدث فيها غسان كنفاني باللغة الإنكليزية، وربما هي المشاهد الحية الوحيدة لغسان، المتوفرة بين يدينا.. بل سنرى أن المخرج العراقي ياسين البكري يقدم فيلمه «زهرة البرقوق» الروائي القصير «مدته 22 دقيقة» من إنتاج مؤسسة السينما والمسرح في العراق، عام 1973.. كما سيقدم المخرج الفلسطيني صبحي الزبيدي فيلماً بعنوان «نساء في الشمس» 1999، في إهداء للأديب الشهيد غسان كنفاني، ومحاولة محاكاة لمأساة رجاله الفلسطينيين، من خلال مأساة مجموعة من النساء الفلسطينيات، في الأرض المحتلة..
ولكن من تراه يستغرب إذا قلنا إن ثمة فيلماً إسرائيلياً، بعنوان «تابوز»، أنتج عام 1998، أراد الحديث عن أرض البرتقال، تلك الأرض، ذاتها، التي طُرد منها غسان، من أجل تحويلها إلى «أرض إسرائيل»، فاعتمد على مجموعة من النصوص الأدبية: «بستان برتقال» لبنيامين تموز، و«ممر قشور البرتقال» لناعوم غوتمان، و«غرام البرتقال» لداليا رافيكوفيتش.. و«أرض البرتقال الحزين» لغسان كنفاني!..
أرأيت يا غسان كيف يسرقوننا، حتى بأدبك؟..
غسان.. هل تراك تعلم بعد عمر من رحيلك، بعد قرابة أربعين سنة من شظاياك، أن الفلسطينيين ما زالوا.. «رجال في الشمس»؟..