السبت، 20 فبراير 2010

كم طبيباً نفسياً تحتاج غزة؟..


حقاً.. كم طبيباً نفسياً تحتاج غزة؟..

ربما، سؤال من هذا النوع لم يخطر ببال الكثير، حتى وهو يتابع سيرة هذه المدينة/ القطاع، وهي تتحوّل من يد إلى أخرى، ومن سلطة إلى غيرها، في انتقالاتها العنيفة ما بين الرعاية المصرية والاحتلال الاسرائيلي، من النكبة إلى النكسة، وما بين السلطة الفلسطينية وسيطرة حماس، من فيض الانتفاضة الشعبية إلى سطوة الكتائب المسلحة، وما شهدته خلال ذلك من انتفاضات وهبات وثورات وتجارب باهظة الأثمان..

كم طبيباً نفسياً تحتاج غزة؟..

هل خطر هذا السؤال، أو هل استدعته الصور، وهي تتوالى بكل ما فيها من مآس وفواجع، لم تفلت صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى؟.. أليس من حقّ غزة، ومن واجبنا، في الوقت نفسه، أن نتأمل في هذه الحالة المأساوية المستمرة، في مسلسل درامي يبدو أنه لن ينتهي، ويمضي من حلقة إلى أخرى، أشد مرارة؟..

تحضر غزة، مدينة وقطاعاً، مخيماً ومعسكراً وبلدات، على هيئة مأساة دائماً!.. تملأ الأسماع بصوت نواحها على العابرين منها، قسراً، إلى الموت الزؤام، قبل أن يتمكنوا من العبور إلى مساحة أمان، إلى لقمة خبز، أو حبة دواء.. وتملأ العيون بصورة شظاياها، وقد وصلها صاروخ قاتل، فقطَّع أوصال أبنية، ونبش أحشاء أرض، وأزهق أرواح بشر، قبل أن تصلها يد مساعدة، أو مواساة..

وغزة التي أهدت العالم، بل العرب والفلسطينيين أنفسهم، دروسها المبدعة في الصمود، في الثورة والانتفاضة الشعبية، في المقاومة والكفاح المسلح، وفي الصبر والتضحية، قبل ذلك وخلاله وبعده.. غزة هذه، لم يبدُ أن أحداً كثيراً سأل نفسه، على الأقل، عن الآثار النفسية والاجتماعية، التي لا بد أن تتوالد، بشكل منطقي وموضوعي، نتيجة كل هذا العنف المسكوب على رأسها، من الجهات جميعها، والأطراف كلها.. (في الحقيقة، لن ننكر هنا أفلاماً مبكرة، ونادرة، في هذا المجال، مثل فيلم «الأيدي الصغيرة» لعبد السلام شحادة).

كيف يمكن لهذه المدينة أن تمضي ستين عاماً، ويزيد، مثقلة الكاهلين، بكل ما تهيأ له من مآس، ولا ننتبه إلى الحقيقة الراسخة، والمتمثلة، في أن للعنف ضحاياه غير المنظورين، أولئك الذين قد ينجون من القتل والتدمير، ويبقون على قيد سجلات الأحياء، يروحون ويجيئون، ولكنهم يحملون في دواخلهم آثاراً لا تقل وجعاً عن الجراح النازفة؟..

هل فكرنا، مثلاً، بحال تلك الفتاة، التي ناحت مفجوعة على أفراد أسرتها القتلى أمام ناظريها، على حافة الشطّ، في مشهد جارح، سرعان ما طواه العالم، وأرسله إلى الأرشيف؟.. هل تساءلنا عن حال ذاك الرجل الذي فقد أسرته بضربة صاروخ واحدة، قبل أن تطفئ طفلته شمعة عيد ميلادها؟.. أو هل تأملنا في حال ذاك الوالد، الذي قُتل ابنه بين يديه، في بث حيّ على الهواء مباشرة، رصاصة رصاصة؟..

وهل فكّر أحدنا بحالة الزوجة، أو الأم، التي عادت بعد انتهاء مراسيم الجنازات، لتعيد ترتيب أشياء من فقدت: دفاتر ابنها وكراساته وكرة اللعب، ووردات ابنتها وأنشوطاتها وآخر ما رسمت على دفاترها، وما تبقى من ثياب زوجها وأغراضه، التي نثرها قبل الرحيل.. وهي التي ستنتبه، كل صباح، إلى النقص الحاصل في عدد كاسات الشاي، على صينية فطور الصباح المتقشفة؟..

ترى من قال إن ذاك الفدائي، أو المقاتل، أو المجاهد، الذي عاد إلى قواعده سالماً (كما اعتادت البيانات البالغة الرصانة)، سوف يعود هو نفسه، معافى، وكأنه كان في مشوار مسائي على حافة البحر؟.. أو في رفقة أليفة وصحبة لطيفة في مشوار مسائي؟.. ومن قال إن البيانات البالغة الإنشاء، تستطيع مهما استطالت، أن تغطي عري النفس أمام أزماتها، التي تعرف كيف تنفذ إلى روح الإنسان المقهور، وتطل برأسها المشاغب بشكل مباغت؟..


من السويد، يأتي المخرج بيا هولمكويست، إلى غزة، ليجيب عن ذلك، وهو الذي اعتاد منذ سنوات أن يتناول القضية الفلسطينية من جوانب مختلفة، فينسج فيلماً وثائقياً تسجيلياً طويلاً جديداً، كان عرضه الأول، ضمن تظاهرة «60 سنة على تقسيم فلسطين»، ضمن فعاليات "مهرجان الشرق الأوسط الدولي الثاني" (مهرجان أبوظبي السينمائي) 2008، والتي نظمها المخرج العراقي الكبير قيس الزبيدي..

وكما اعتاد المخرج بيا هولمكويست، في أفلامه السابقة، مثل «معركة في القدس» 1980، و«غيتو غزة» 1984، و«أسد من غزة» 1996، التطرق إلى موضوعات لافتة الانتباه في ذكائها وحذاقتها، والذاهبة إلى جوهر القضية الفلسطينية بمستوياتها السياسية والنفسية الاجتماعية، يذهب هاهنا في الفيلم التسجيلي الطويل (90 دقيقة)، المعنون «فرويد الشاب في غزة»، عبر حالة فريدة، إلى الكشف عن الكثير من الحالات غير الفريدة، تلك التي لا تراها نشرات الأخبار، ولا تكتبها التقارير الصحفية، ولا تبصرها الأعين المسطحة التي، ربتها الفضائيات، فاعتادت عدم تكليف نفسها مهام الغوص في الأعماق..

هكذا يغدو الفيلم السينمائي، كما ينبغي دائماً، بمثابة العين الخبيرة، التي تذهب في نحو يغاير مطاردة الحدث، وتصوير الخبر العاجل، ليقف ويتأمل ويدرك.. ولن نبالغ إذا قلنا إن تلك هي مهمة السينما الحقيقية، خاصة في زمن الخبر العاجل، والبث المباشر.. إنها مهمة السينما في أن تربي العين الخبيرة، القادرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء، والتقاط حقيقتها المتوارية خلف حجب المتحرك الصاخب، تلك الحجب التي سرعان ما تتهشم أمام لحظة مصارحة.. وفي أن تحرض الوعي للتفكير والتأمل والمعرفة..

«فرويد الشاب في غزة»، هو الشاب الفلسطيني «عايد»، السيكولوجي، المتخصص في علاج الحالات النفسية، الباحث عن دور يقوم به تجاه مجتمعه وقضيته، بعيداً عن ضجيج السياسة، إيقاع العسكر، وبسببهما أولاً وتالياً.. وإذا كان من النادر، في المجتمعات العربية المستقرة عموماً، أن ينتشر مثل هذا الاختصاص العلمي، فإنه سيكون أكثر ندرة في واقع ملث غزة، المدينة والقطاع، التي تعيش على فوهة بركان من القلق والتوتر، من ناحية، وفي قبضة الحاجة اليومية الملحة، والجراحات الدامية، من ناحية أخرى، تلك التي يغدو معها الحديث عن طب أو علاج نفسي، شيئاً من الترف!..

من هنا كان من الطبيعي أن ينفر والده ساعة سماعه أن ابنه سوف يتخصص في هذا المجال، فيصبح الطبيب الذي لن يركض وراء الجرحى ليضمد جراحهم، أو خلف الشهداء يلملم بقاياهم.. بل ينشغل بالاختصاص الذي يسعى لالتقاط غور النفس، والتفتيش في ثناياها، ومحاولة تخليص المعذبين الصامتين مما يعانونه قيد البوح أو الكشف..


سيلتقط الشاب عايد، وهو الذي يبدو بكل السلاسة والبساطة، ولكن بالتصميم كله، الحالات النفسية التي يصادفها، أو تقصده بعد تردد، ويخضعها للعلاج، على الرغم من الصدود الذي واجهه منذ البداية، ليس فقط لناحية عدم اقتناع والده بهذا العمل، أو لناحية الشكوك والارتيابات، التي تراود الجميع في مجتمع مثل غزة، في أن عمله ذو جدوى حقيقية، بل أساساً لأن ناسنا لم يعتادوا بعد الجلوس والبوح بما في مكنونات النفس.. ومع ذلك سوف نرى الشاب عايد، وهو يقابل حالات متعددة من المرضى أمثال: إيناس، حنان، مايسة، عبد.. من ضحايا العنف والقهر، ومن خلال جلسات العلاج، نتعرف معه على الكثير من وقائع عالم غزة، في نماذجها المتجسدة أمامنا..

والفيلم الذي استغرق من مخرجه ثلاث سنوات من التصوير، كان لا بد له أن يمر على أحداث دامية حصلت خلال سنوات التصوير، مثل غارة إسرائيلية يونيو 2006، واجتياح اسرائيل لمنطقة بيت حانون في العام نفسه، قبل أن يصل إلى الاشتباكات الأولى ما بين حركتي حماس وفتح، قبل أن تصل الأمور بينهما إلى الحسم العسكري، وما تضمنه من مشاهد بالغة الأسى!.. وهو مع ذلك لن يجعل من هذا كله موضوعه الأساس، بل سيمر بها باعتبارها محطات تولد المزيد من الحالات المحتاجة للعلاج النفسي..

والشاب عايد/ فرويد غزة، لن يعيش منقطعاً عن الواقع المحيط به، ولا ناجياً من مؤثراته.. إنه في لحظات عديدة من الفيلم يتجول في شوارع غزة، حاملاً حقيبته، وممتطياً أحلامه التي تكاد تكون أوهامه، فيمرّ على مجريات الحال السياسية الغزاوية، وعلى تفاعلات الشارع السياسي، في تناقض شعاراته، وأنقاضها..

ويبلغ الفيلم ذروة درامية، عندما نجد الشاب عايد، وقد سقط هو نفسه في قبضة الاحباط واليأس، وبات كأنه يحتاج لمن يعالجه، قبل أن ينهض مرة أخرى، ليجد نفسه في مواجهة مهمة أكثر صعوبة.. في لحظة ما سنرى الشاب عايد لا يختلف كثيراً عن الحالات التي يريد إخضاعها للعلاج..

ينتبه الفيلم إلى موضوع العنف، وأثره على المجاهدين الأشاوس الذين يبدون على هيئة مجموعة من مجاهدي حماس، الباحثين عن العلاج النفسي، ولكن دون موسيقى، ودونما إيهام.. كما ينتبه إلى العنف وآثاره على الأطفال، ويرصد شيئاً من ذلك من خلال رسوم الأطفال، ويحاول قراءة الوضعية النفسية التي تتكون لدى الأطفال، وتعيد تشكيلهم.. ونرى الشاب عايد وهو يحاول إيجاد الحلول لهذه المشكلات.. خاصة وهو يعبر أن أمنيته الكبرى في النهاية تتمثل في أن تشرق شمس جديدة.. وأن الحل سيكون، ولكن على إيدي الاطفال..

«الشاب فرويد في غزة» إضافة جديدة وحاذقة للمخرج السويدي بيا هولمكويست، تحتاجها القضية الفلسطينية، في وقت تشوشها فعائل الفلسطينيين أنفسهم، وارتكاباتهم الفظيعة، التي تثير السؤال مجدداً:

كم طبيباً نفسياً تحتاج غزة؟..

الثلاثاء، 2 فبراير 2010

إنفاق حياة، في حياة الأنفاق!..

على الرغم من أنها تكاد تكون اللفظة الأكثر شيوعاً في كل ما يجري الآن على الساحة الفلسطينية، سواء لجهة علاقة قطاع غزة بالعالم، أو المشكلات التي تثيرها مع الجارة؛ الشقيقة مصر، أو لناحية الشكوى الدائمة لدولة الإحتلال منها، فإن «الأنفاق»، لم تجد لها مكاناً ملحوظاً بعد، في عموم الإنتاج السينمائي الفلسطيني، سواء تفسيراً أو تحليلاً، أو تبريراً، وحتى دفاعاً أو نقداً أو رفضاً، وهو أمر يثير الاستغراب حقاً!..
ليست «الأنفاق» سراً، أو لم تعد كذلك، ولا هي قيد الشك، أو الانكار، ولو للحظة، ومن أيّ أحد. فالجميع يتفق على وجودها، وتعددها، وتنوعها، وتشابكها.. وإن كانوا لا يتفقون على أهميتها وضرورتها وإيجابياتها، أو سلبيتها وخطورتها، ومقدار وشكل تأثيرها على الحياة في قطاع غزة، الذي يبدو ظناً وعياناً، على السواء، أنه يعاني من حصارات متعددة ومتراكبة.
يعرف الفلسطينيون «الأنفاق»، ويستخدمونها لأغراض شتى، ويعرف المصريون «الأنفاق»، ويخططون لقطع الطريق أمامها، إن لم يكن بقناة مائية، فعلى الأقل بجدار فولاذي ينغرس في الأرض عميقاً، ويعرف الإسرائيليون «الأنفاق»، ولا يكلّون ولا يملّون من قصفها، مرة بعد أخرى، إن لم يكن اجتياحاً بعد آخر..
كأن الجميع يعرفون «الأنفاق»، تماماً في الوقت الذي يبدو أن لا أحد يعرف عنها شيئاً.. كأنما هي حاضر غائب.. فلا هي تتعالى أمام الأنظار، كما «الجدار» الفاصل، مثلاً، والذي نال نصيبه من أفلام فلسطينية وإسرائيلية، فضلاً عن أجنبية. ولا هي تتمطى ساعات طويلة أما طوابير المنتظرين، كما «المعابر»، والتي كان لها حصتها من أفلام أخرى. ولا هي تنكفئ خلف أسوارها الصارمة، كما «المعتقلات»، التي يبدو أنها ستبقى المعادل المزمن للنكبة، وما وّلدته، وتولِّده من نكبات تالية، ولها نصيبها على ضفتي الخندق!..
وحدها «الأنفاق»، تبقى سيرة محمودة محروسة، من قبل طرف، ومرجومة ملعونة، من قبل أطراف.. ولكن ليس ثمة من يجوس في ثنايا، وينقل لنا أدنى صور عن تفاصيل حياة تدور في تلافيفها.. فقط ستأتينا أخبار متناثرة ناجزة؛ كأن نعرف أن هناك من مرّ عبرها، ومنهم أعلام وسياسيون وحزبيون، عرب وأجانب. أو نعرف أن هناك ما يمرّ خلالها، ليس سلاحاً أو غذاء أو دواء أو دواب، فقط، على ما يقول مناصروها، بل أيضاً دخان ومشروبات روحية ومخدرات وحلى ومجوهرات وسقط متاع، من هواتف خليوية وأثاث وملابس وسيارات فارهة، كما يقول معارضوها!..
وعلى الرغم من أن هناك من ينظر إلى «الأنفاق»، باعتبارها اختراعاً معيشياً لاستجرار أسباب الحياة ومستلزماتها، طالما انغلقت المعابر، وسُدّت الدروب.. فثمة الكثير من ينقلها إلى مسرح السياسة، والسيادة الوطنية، والأمن القومي، كما لدى مصر، من جهة، وإلى حيثيات شق عصا الطاعة، والخروج عن الاجماع الوطني، كما لدى السلطة الفلسطينية، من جهة أخرى، فيما تؤكد حركة حماس، من جهتها، أن هذه «الأنفاق»، شرايين مقاومة.
لن يعباً فيلم «تذكرة من عزرائيل»، للمخرج الشاب عبدالله الغول، وهو فيلم وثائقي، مدته 30 دقيقة، بكل هذا الكلام، ولا يقترب من هذه المفارقات والتناقضات، ولا يغوص في شيء من هذا الجدل.. بل يبدو أنه لا يريد سوى إمضاء وقت يجوس في أحد «الأنفاق»، واستكشاف عالمها، والتعرف على بعض من تفاصيلها، وحياتها، وحياة العاملين فيها..
هنا لن نرى أياً ممن يمرون عبر «الأنفاق»، ولا شيئاً مما يتمّ تمريره عبرها.. هنا سنرى أولئك الذين يقومون بحفرها، ونتعرف إليهم، ونعيش معهم، وفق سيناريو تلقائي، يبدأ معهم انطلاقاً من لحظة صباحية، حيث نرى سيارة متهالكة، وشباب يلملمون بعضهم البعض.. يأتون من حارات في مدينة، ومن زواريب في مخيم.. من بيوت إسمنتية أنيقة البناء، ومن غرف متهالكة، بأسقف من صفيح.. يتنادون من بيوتهم، ويذهبون، كأنما هم في ورشة عمل..
الكاميرا ترافقهم في سيارتهم المتهالكة. وهم مجموعة من الشباب في مقتبل العمر، يدقون أبواب العشرينات من العمر. ما بين ضحكات ومزاح، وألفاظ لا تخلو من بذاءات الشارع.. إلى استفسارات عن واقع الحال، وآخر الأخبار؛ هل ثمة قصف إسرائيلي، أم لا!..
ننتهي إلى خيمة، سنعرف سريعاً أنها تقبع على فوهة نفق. وكما عمال ورشات البناء، يشرعون في التحضير للانغماس في أجواء العمل.. استبدال الملابس، وتجهيز الأدوات.. والكاميرا تستعرض تفاصيل سيبدو الكثير منها غريباً ومثيراً للدهشة: معدات بدائية، تم اختراعها على حافة الكهرباء، والاتصالات السلكية.. رافعات بأسلاك، تتحول إلى مصاعد تنقل الأشخاص، والأشياء، كما تتحول إلى قاطرة.. هواتف أقرب إلى «أنترفون» منزلي.. تتحول إلى أدوات تواصل، وتوجيهات.. عبوات بلاستيكية مقورة.. تصبح دلاء تنقل التراب، وما يحتاجه العاملون في الأنفاق تحت الأرض!..
تهبط الكاميرا مع العاملين.. ثمة أمتار هابطة محمية بجدران استنادية من أخشاب متهالكة.. نهبط إلى قاع النفق، حيث يبدأ العمل اليومي، الذي يبدو أنهم اعتادوه، وعرفوه، وخبروه.. ضجيج محركات.. صراخ ونداءات متبادلة.. طقوس ومفردات تنتمي إلى عالم خاص.. والكاميرا تستمر في المسير مع العاملين في إلتواءات النفق، وامتداداته، متوغلاً تحت التراب.. المسافات تتالى، واللهاث يعلو..
يبدو أن الشباب ماهرون في استخدام معداتهم، على بدائيتها، ومحترفون في إجراءات العمل، ربما لاعتيادهم على ممارسته.. نرى العمال وهم يقومون بالحفر، يستخدمون المجارف القصيرة الذراع، وأدوات الثقب التي يستخدمها الحدادون والنجارون، عادة لثقب الحديد أو الخشب، ولكنها هناك للحفر. يملئون الدلاء بالتراب، ويقطرونها عبر النفق، قبل سحبها إلى أعلى، ونثرها في جوانب المكان، بالقرب من الخيام، وبين البيوت.
من الواضح أن هذا اليوم مخصص للاحتفاء بحضور الكاميرا، والمخرج.. ففي اللحظة التي يصلون فيها إلى عمق النفق، وحيث ينبغي أن يستمر العمل بالحفر، وإزاحة التراب، ونقله إلى الخارج.. وبعد تجربة عملية لكيفية القيام بالحفر، واستخدام الأدوات، تنعقد جلسة حوارية، همّها الأساس هو الكشف عن جوانب هامة، وتفاصيل غنية، من وقائع حياة يتم إنفاقها في «الأنفاق».
أحد العاملين، يشير إلى فتحة في جدار النفق، ويقول، هنا تمّ الاصطدام مع «خط» آخر، بما يعني نفق آخر، لنعلم أن الأنفاق متقاربة، بحيث تشكل شبكة، تتداخل وتنفتح على بعضها البعض، أحياناً، وهو الأمر الذي يمكن أن يتحول إلى خطر على حياة العاملين.
ويشرح عامل آخر عن «القادوح»، وهو ما كان الإسرائيليون، يغرسونه في الأرض، حيث يعمدون إلى الحفر بعمق يتراوح بين 25 – 30 متراً، ومن ثم يضعون متفجراً لخلخلة الرمل، الذي سرعان ما ينهار على العاملين في «الأنفاق»، ويقتلهم تحت الردم.. ويؤكد أن «القادوح»، هو أخطر ما يواجه العمال في «الأنفاق»، وأن العمال يقومون بوضع الخشب، تلافياً لانهيار الرمل عليهم..
ومع تأكيدهم، جميعاً، على أن من يعمل في حفر النفق، إنما هو يخاطر بحياته يومياً، و«يقطع تذكرة من عزرائيل»، إذ لا يعرف هل سيخرج منه أم لا!.. لن يكون من الغريب قولهم إنهم إنما يعملون في «الأنفاق»، بسبب الحاجة، والبحث عن لقمة العيش، خاصة وأن فرص العمل معدومة، ولا خيار متاحاً، سوى في هذا العمل القاتل.. «هذه الشغلة كلها موت».. يقول أحدهم. وهذا العمل المحفوف بالموت، لا يمنح كبير العمال أكثر من 30 دولار، لقاء حفر المتر الواحد، ولا يمنح أمهر العمال أكثر من 120 شيكل في اليوم، بينما لا يزيد أجر العامل المساعد عن 70 شيكل في اليوم.
صورة أخرى، ومغايرة، يقدمها هذا الفيلم الوثائقي؛ صورة تقترب من واقع الناس، وحياتهم، بعيداً عن القول السياسي، وجدالاته، وبعيداً عن الشعارات، ومقولاتها.. في محاولة تسعى إلى كشف المسافة الفاجعة بين هذا وذاك، ومرارة أن يستل البعض لقمتهم ممهورة بخاتم «ملك الموت»!..