الثلاثاء، 2 فبراير 2010

إنفاق حياة، في حياة الأنفاق!..

على الرغم من أنها تكاد تكون اللفظة الأكثر شيوعاً في كل ما يجري الآن على الساحة الفلسطينية، سواء لجهة علاقة قطاع غزة بالعالم، أو المشكلات التي تثيرها مع الجارة؛ الشقيقة مصر، أو لناحية الشكوى الدائمة لدولة الإحتلال منها، فإن «الأنفاق»، لم تجد لها مكاناً ملحوظاً بعد، في عموم الإنتاج السينمائي الفلسطيني، سواء تفسيراً أو تحليلاً، أو تبريراً، وحتى دفاعاً أو نقداً أو رفضاً، وهو أمر يثير الاستغراب حقاً!..
ليست «الأنفاق» سراً، أو لم تعد كذلك، ولا هي قيد الشك، أو الانكار، ولو للحظة، ومن أيّ أحد. فالجميع يتفق على وجودها، وتعددها، وتنوعها، وتشابكها.. وإن كانوا لا يتفقون على أهميتها وضرورتها وإيجابياتها، أو سلبيتها وخطورتها، ومقدار وشكل تأثيرها على الحياة في قطاع غزة، الذي يبدو ظناً وعياناً، على السواء، أنه يعاني من حصارات متعددة ومتراكبة.
يعرف الفلسطينيون «الأنفاق»، ويستخدمونها لأغراض شتى، ويعرف المصريون «الأنفاق»، ويخططون لقطع الطريق أمامها، إن لم يكن بقناة مائية، فعلى الأقل بجدار فولاذي ينغرس في الأرض عميقاً، ويعرف الإسرائيليون «الأنفاق»، ولا يكلّون ولا يملّون من قصفها، مرة بعد أخرى، إن لم يكن اجتياحاً بعد آخر..
كأن الجميع يعرفون «الأنفاق»، تماماً في الوقت الذي يبدو أن لا أحد يعرف عنها شيئاً.. كأنما هي حاضر غائب.. فلا هي تتعالى أمام الأنظار، كما «الجدار» الفاصل، مثلاً، والذي نال نصيبه من أفلام فلسطينية وإسرائيلية، فضلاً عن أجنبية. ولا هي تتمطى ساعات طويلة أما طوابير المنتظرين، كما «المعابر»، والتي كان لها حصتها من أفلام أخرى. ولا هي تنكفئ خلف أسوارها الصارمة، كما «المعتقلات»، التي يبدو أنها ستبقى المعادل المزمن للنكبة، وما وّلدته، وتولِّده من نكبات تالية، ولها نصيبها على ضفتي الخندق!..
وحدها «الأنفاق»، تبقى سيرة محمودة محروسة، من قبل طرف، ومرجومة ملعونة، من قبل أطراف.. ولكن ليس ثمة من يجوس في ثنايا، وينقل لنا أدنى صور عن تفاصيل حياة تدور في تلافيفها.. فقط ستأتينا أخبار متناثرة ناجزة؛ كأن نعرف أن هناك من مرّ عبرها، ومنهم أعلام وسياسيون وحزبيون، عرب وأجانب. أو نعرف أن هناك ما يمرّ خلالها، ليس سلاحاً أو غذاء أو دواء أو دواب، فقط، على ما يقول مناصروها، بل أيضاً دخان ومشروبات روحية ومخدرات وحلى ومجوهرات وسقط متاع، من هواتف خليوية وأثاث وملابس وسيارات فارهة، كما يقول معارضوها!..
وعلى الرغم من أن هناك من ينظر إلى «الأنفاق»، باعتبارها اختراعاً معيشياً لاستجرار أسباب الحياة ومستلزماتها، طالما انغلقت المعابر، وسُدّت الدروب.. فثمة الكثير من ينقلها إلى مسرح السياسة، والسيادة الوطنية، والأمن القومي، كما لدى مصر، من جهة، وإلى حيثيات شق عصا الطاعة، والخروج عن الاجماع الوطني، كما لدى السلطة الفلسطينية، من جهة أخرى، فيما تؤكد حركة حماس، من جهتها، أن هذه «الأنفاق»، شرايين مقاومة.
لن يعباً فيلم «تذكرة من عزرائيل»، للمخرج الشاب عبدالله الغول، وهو فيلم وثائقي، مدته 30 دقيقة، بكل هذا الكلام، ولا يقترب من هذه المفارقات والتناقضات، ولا يغوص في شيء من هذا الجدل.. بل يبدو أنه لا يريد سوى إمضاء وقت يجوس في أحد «الأنفاق»، واستكشاف عالمها، والتعرف على بعض من تفاصيلها، وحياتها، وحياة العاملين فيها..
هنا لن نرى أياً ممن يمرون عبر «الأنفاق»، ولا شيئاً مما يتمّ تمريره عبرها.. هنا سنرى أولئك الذين يقومون بحفرها، ونتعرف إليهم، ونعيش معهم، وفق سيناريو تلقائي، يبدأ معهم انطلاقاً من لحظة صباحية، حيث نرى سيارة متهالكة، وشباب يلملمون بعضهم البعض.. يأتون من حارات في مدينة، ومن زواريب في مخيم.. من بيوت إسمنتية أنيقة البناء، ومن غرف متهالكة، بأسقف من صفيح.. يتنادون من بيوتهم، ويذهبون، كأنما هم في ورشة عمل..
الكاميرا ترافقهم في سيارتهم المتهالكة. وهم مجموعة من الشباب في مقتبل العمر، يدقون أبواب العشرينات من العمر. ما بين ضحكات ومزاح، وألفاظ لا تخلو من بذاءات الشارع.. إلى استفسارات عن واقع الحال، وآخر الأخبار؛ هل ثمة قصف إسرائيلي، أم لا!..
ننتهي إلى خيمة، سنعرف سريعاً أنها تقبع على فوهة نفق. وكما عمال ورشات البناء، يشرعون في التحضير للانغماس في أجواء العمل.. استبدال الملابس، وتجهيز الأدوات.. والكاميرا تستعرض تفاصيل سيبدو الكثير منها غريباً ومثيراً للدهشة: معدات بدائية، تم اختراعها على حافة الكهرباء، والاتصالات السلكية.. رافعات بأسلاك، تتحول إلى مصاعد تنقل الأشخاص، والأشياء، كما تتحول إلى قاطرة.. هواتف أقرب إلى «أنترفون» منزلي.. تتحول إلى أدوات تواصل، وتوجيهات.. عبوات بلاستيكية مقورة.. تصبح دلاء تنقل التراب، وما يحتاجه العاملون في الأنفاق تحت الأرض!..
تهبط الكاميرا مع العاملين.. ثمة أمتار هابطة محمية بجدران استنادية من أخشاب متهالكة.. نهبط إلى قاع النفق، حيث يبدأ العمل اليومي، الذي يبدو أنهم اعتادوه، وعرفوه، وخبروه.. ضجيج محركات.. صراخ ونداءات متبادلة.. طقوس ومفردات تنتمي إلى عالم خاص.. والكاميرا تستمر في المسير مع العاملين في إلتواءات النفق، وامتداداته، متوغلاً تحت التراب.. المسافات تتالى، واللهاث يعلو..
يبدو أن الشباب ماهرون في استخدام معداتهم، على بدائيتها، ومحترفون في إجراءات العمل، ربما لاعتيادهم على ممارسته.. نرى العمال وهم يقومون بالحفر، يستخدمون المجارف القصيرة الذراع، وأدوات الثقب التي يستخدمها الحدادون والنجارون، عادة لثقب الحديد أو الخشب، ولكنها هناك للحفر. يملئون الدلاء بالتراب، ويقطرونها عبر النفق، قبل سحبها إلى أعلى، ونثرها في جوانب المكان، بالقرب من الخيام، وبين البيوت.
من الواضح أن هذا اليوم مخصص للاحتفاء بحضور الكاميرا، والمخرج.. ففي اللحظة التي يصلون فيها إلى عمق النفق، وحيث ينبغي أن يستمر العمل بالحفر، وإزاحة التراب، ونقله إلى الخارج.. وبعد تجربة عملية لكيفية القيام بالحفر، واستخدام الأدوات، تنعقد جلسة حوارية، همّها الأساس هو الكشف عن جوانب هامة، وتفاصيل غنية، من وقائع حياة يتم إنفاقها في «الأنفاق».
أحد العاملين، يشير إلى فتحة في جدار النفق، ويقول، هنا تمّ الاصطدام مع «خط» آخر، بما يعني نفق آخر، لنعلم أن الأنفاق متقاربة، بحيث تشكل شبكة، تتداخل وتنفتح على بعضها البعض، أحياناً، وهو الأمر الذي يمكن أن يتحول إلى خطر على حياة العاملين.
ويشرح عامل آخر عن «القادوح»، وهو ما كان الإسرائيليون، يغرسونه في الأرض، حيث يعمدون إلى الحفر بعمق يتراوح بين 25 – 30 متراً، ومن ثم يضعون متفجراً لخلخلة الرمل، الذي سرعان ما ينهار على العاملين في «الأنفاق»، ويقتلهم تحت الردم.. ويؤكد أن «القادوح»، هو أخطر ما يواجه العمال في «الأنفاق»، وأن العمال يقومون بوضع الخشب، تلافياً لانهيار الرمل عليهم..
ومع تأكيدهم، جميعاً، على أن من يعمل في حفر النفق، إنما هو يخاطر بحياته يومياً، و«يقطع تذكرة من عزرائيل»، إذ لا يعرف هل سيخرج منه أم لا!.. لن يكون من الغريب قولهم إنهم إنما يعملون في «الأنفاق»، بسبب الحاجة، والبحث عن لقمة العيش، خاصة وأن فرص العمل معدومة، ولا خيار متاحاً، سوى في هذا العمل القاتل.. «هذه الشغلة كلها موت».. يقول أحدهم. وهذا العمل المحفوف بالموت، لا يمنح كبير العمال أكثر من 30 دولار، لقاء حفر المتر الواحد، ولا يمنح أمهر العمال أكثر من 120 شيكل في اليوم، بينما لا يزيد أجر العامل المساعد عن 70 شيكل في اليوم.
صورة أخرى، ومغايرة، يقدمها هذا الفيلم الوثائقي؛ صورة تقترب من واقع الناس، وحياتهم، بعيداً عن القول السياسي، وجدالاته، وبعيداً عن الشعارات، ومقولاتها.. في محاولة تسعى إلى كشف المسافة الفاجعة بين هذا وذاك، ومرارة أن يستل البعض لقمتهم ممهورة بخاتم «ملك الموت»!..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق