الأحد، 24 يناير 2010

أفلام خليجية أطلقها مهرجان دبي السينمائي الدولي:

وفي الخليج فقر وفراق وغياب ودموع.. وأفلام تحكي عن هذا!..

أما وقد أصدر مهرجان دبي السينمائي الدولي، في دورته الخامسة عام 2008، قرصاً يتضمن مجموعة من الأفلام الإماراتية، فسيبدو من المنطقي تماماً، واستمراراً لاستراتيجيته، أن يصدر في دورته السادسة عام 2009، قرصاً آخر يتضمن، هذه المرة، مجموعة أفلام خليجية، بما يوحي برغبة هذا المهرجان في تأكيد انتسابه للسينما الخليجية أولاً، وحرصه على رعايتها ودعمها وإطلاقها.. على الرغم من نزوعه الدولي.
ثمانية أفلام ستأتينا، عبر هذا القرص، قادمة، أو مُنتقاة باسم «أفلام من الخليج»، من: مملكة البحرين، سلطنة عُمان، دولة الإمارات العربية المتحدة، دولة قطر، دولة الكويت، المملكة العربية السعودية.
ومع غياب كلٍّ من العراق واليمن، سيبدو أن الأفلام المُنتقاة، إنما تنتمي في النهاية إلى بيئة «مجلس التعاون الخليجي»، حتى لا نقول «الخليج العربي»، وننتهي، دون أن ننكر حقيقة أن المتشابهات والقواسم المشتركة بين دول «مجلس التعاون الخليجي»، القادم منها هذه الأفلام، هي أكثر تقاطعاً وغنىً وثراءً، مما هي من جهة أولى، مع كل من العراق واليمن، من جهة أخرى.. ولكنه قدر الجغرافيا التي لا مفر منها، على ما يبدو!.. ولعل في استبعادهما من هذا القرص، فرصة للقاء قادم، خاص بهما.
وفضلاً عن هذا، ستبدو مسألة الانتقاء، وأحقية اختيار هذا الفيلم، واستبعاد ذاك الفيلم، أكثر تعقيداً، خاصة وأن قائمة الأفلام الخليجية طالت واستطالت، وتنوعت، وبات فيها زاد لمستزيد، إلى درجة أنه أضحى من العسير للمرء أن يضع قائمة نهائية للمنجز الفيلمي الخليجي، ما بين أفلام الهواة والشباب، وأفلام الطلبة، وأفلام المخرجين المحترفين.. وإن كانت جميعها، تقريباً، تقع في دائرة الفيلم الروائي القصير، وهو ما سنلاحظه في مجموعة الأفلام التي سيمنحنا القرص فرصة مشاهدتها، مرة بعد أخرى.

يبدأ القرص مع فيلم «غياب»، للبحريني محمد راشد بوعلي، 2008، وهو فيلم روائي قصير، مدته 11 دقيقة. يذكر أنه مأخوذ عن قصة «الوحيد لوحده»، للشاعر قاسم حداد. ولقد كتب السيناريو: حسن حداد، وهو من تمثيل: عبدالله ملك، شيماء الكسار، والفيلم مُهدى إلى ذكرى «إبراهيم عبدالرحمن بوعلي»، الأمر الذي لا يعني سوى أن الفيلم نبرة ذاتية خاصة لمخرجها، تتعالق مع وجدانه وذاكرته الشخصية، وانطلاقاً من بيئته المجتمعية، وخصوصيتها البحرينية.
في فيلم «غياب»، ثمة عجوزان في جلسة منزلية؛ هو يقرأ الجريدة، وهي تحيك في قطعة تطريز، وصوت أم كلثوم بينهما يعلو بأغنية «فات الميعاد».. ليس ثمة من حوار يدور بين العجوزين؛ المرأة والرجل.. لقد مضت بهما السنون، ولعلهما قالا كل ما يمكن لهما أن يقولاه، وهاهما في قعدة هادئة، متوثبة بانتظار من لا يبدو أنه سيأتي.. فعنوان الفيلم يفضح مضمونه!..
لحظة، ويتوهم الرجل أنه سمع قرع باب، فينطلق متثاقلاً، لعله يعثر عند الباب على الطارق.. تخيب به النظرات الواهنة التي يرسلها في الزقاق، يمنة ويسرة، ويعود لا يلوي على شيء، تاركاً الباب موارباً، لعل القادم المُنتظر يدخل فوراً، فلا حاجة به لقرع الباب..
ومن الطبيعي، من ثمَّ، أن تقوم الزوجة، المرأة العجوز بدورها، وتتثاقل بخطواتها لتتفقد الباب، والتطلع بشوق عينين متعبتين إلى الزقاق، لعله يأتي بمن ترغب، وتتمنى.. ولكنه الفراغ الذي يظلل الغياب.. إنه غياب لا نراه، ولا نعيشه، ولكننا نتلمس آثاره ووقعه على الناس الحاضرين أمامنا..

ويتلوه فيلم «بيلوه»، للعُماني عامر الرّواس، 2008، وهو فيلم روائي قصير، مدته 6 دقائق. حيث يقوم هذا الفيلم على اسم لعبة شعبية معروفة في سلطنة عمان، ويريد من خلالها التركيز على مشكلة المرأة في مجتمعاتنا الخليجية، العربية، المشرقية عموماً، إذ سرعان ما تنتقل الطفلة من ملاعب اللهو إلى قسوة الحياة. وسريعاً ما تجد نفسها تحت وطأة قوانين لا تعرف الرأفة، أو الرحمة.
من صبية في مقتبل العمر تلهو، إذ نراها ترسم خطوطها على الأرض، لتمارس لعبتها الأثيرة، يأتينا صوت يحكي حكاية هذه الصبية، والقوانين الجديدة التي تفاجئها، فتقتلعها من عالم البراءة.. ليس بلا معنى أن نرى ذلك المشهد، إذ يمر الفتى في مسار علوي، بينما الصبية تمر في مسار أدنى. إنه حديث عن الخفض الاجتماعي للمرأة في عالمنا. حتى لو كانت على حافة الحياة. أوقتل للحياة ذاتها.
أما فيلم «بنت النوخذة»، للإماراتي خالد المحمود 2008، وهو فيلم روائي قصير، مدته 17 دقيقة، فهو يحاول المزج بين الأسطورة والمخيال الشعبي، من جهة، والواقع، من جهة أخرى، لينتهي إلى ما يتماس مع حياتنا، بقوة ومباشرة.
هنا ثمة موت وفراق، ظلم وقهر، وطفل ربما في العاشرة من عمره، يراقب ما يدور حوله، ليكون شاهداً وشهيداً. كأنما هو عالم محكوم بالفقد، بالألم واللوعة، وإن كانت الأسطورة الشعبية لأبناء البحر تستجدي العدالة، من الظالم، أو من نسله؛ «بنت النوخذة»، ثاراً منه..

لن نفاجأ بوجود فيلم «بنت مريم»، للإماراتي سعيد سالمين 2008، على هذا القرص، فهو فيلم روائي قصير، مدته 27 دقيقة. كتب السيناريو: محمد حسن أحمد، ومن تمثيل: محمد إسماعيل، نيفين ماضي، رشا العبيدي، حسين المحمود.. وهو أكثر فيلم نال جوائز خلال العامين المنصرمين. ولعل ليس من المبالغة أنه لم يحصل أي فيلم روائي عربي قصير على العدد ذاته من الجوائز.
يبدأ الفيلم بنص أدبي، فيه شيء من الشعر العامي، والحكمة الشعبية: «ثوب العطش جدا أرضك قاصف، شال الحزن بإيدك طفل خايف، زاد العوق ودعواي بين النصايف، نبا غيمة فيها المطر واقف».. ولن يتوقف الفيلم عن طريقة السرد الشعري أبداً..
الفيلم يقوم على صوت صبية، في مقتبل العمر، تحكي حكايتها، تلك التي تبدأ بتزويجها برجل عجوز طاعن في السن، وربما هارب من الزمن، فيما تقول هي عن نفسها: «وأنا بعدني بنت ما شفت الدم في ثيابي».. وما بين موت زوجها «الشيبة»، وطردها لتجأ إلى قريبها «معتوق» الضرير، المتبقي من أهلها، ومأساة المرأة التي يسجنها أخوها، لإجبارها على الزواج، نخلص إلى حقيقة أنه «كل بيت فيه بنت مريم».. لا يغير من ذلك وجود الفتى الحامل لشتلة شجرة، على أمل أن تطيل عمر والدته..
سيكون موت، وسيكون فراق وألم.. والفيلم ينغلق على البداية، في بنية دائرية لا تنتهي..
ويذهب فيلم «سائق التاكسي» للقطري حافظ علي عبدالله 2004، وهوفيلم روائي قصير، مدته 19 دقيقة. كتابة: جاسن كابوس. إلى معاناة «كمال زيتوني»، وهو من سنعرف أنه فتى مغربي، ترك بلاده للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية، وسيعمل مع قلة الحيلة كسائق تاكسي على الرغم من أنه كان مهندساً في بلاده.
مع جرعة زائدة من تناول مأساة المهاجرين من بلدانهم إلى أرض الأحلام، أي الولايات المتحدة الأمريكية، وهي موضوعة ليست جديدة في السينما العربية. ومع محاولات الاستثارة للمشاعر الإنسانية، بمشاهدة الاحتفال بعيد ميلاد الطفلة في غياب والدها.. سيأتي المشهد الذي نرى فيه أميركياً يفارق أسرته للعمل في آلاسكا، ونعرف أنه سيغيب خمسة شهور عن العائلة، لندرك أن الدائرة تدور على الجميع. ويبدو كأنما يفرغ مأساة الفيلم من استثنائيتها.

ويذهب فيلم «مهملات»، للكويتي عبدالله بوشهري 2006، وهو فيلم روائي قصير، مدته 4 دقائق، إلى اتجاه آخر، إذ يبدو الفيلم على شكل لوحات متتالية، تريد الحديث عن تفكك المجتمعات الخليجية، بدءاً من المرأة الغارقة في كمالياتها، إذ نرى آسيوية تقوم بتجميل قدميها، فيما هي منشغلة بالتواصل عبر الهاتف المحمول. والرجل المنشغل بالتحرش بالنساء، ومن ثم تعاطي المخدرات، لتكون النتيجة رمي طفل رضيع، إلى جوار حاوية قمامة.
فيلم «مطر»، للسعودي عبدالله آل عياف، 2008، وهو فيلم روائي قصير، مدته 24 دقيقة، ينوس بين مأساتين أساسيتين، أولاهما لطفل فاقد لحاسة السمع، ويسعى للحصول على سماعة، تمكِّن الأصوات من التسرب لأسماعه، وثانيهما لشاب مهدد بفقد البصر، بسبب مرض السكري، دون أن يفقد رغبته بمشاهدة مباراة للنادي الذي يشجعه.
يختار المخرج السعودي عبدالله آل عياف طريقة سرد شعرية، يقدم من خلالها صورة واقعية للمجتمع السعودي، صورة لا علاقة لها بالتأكيد بكل ما عرفناه وسمعناه عن السعوديين، أو بالصورة التي قدمتها لنا وسائل الإعلام عن المجتمع السعودي، حتى تلك التي قدمها الإعلام السعودي ذاته.
الفيلم، وهو من تأليف وسيناريو ومونتاج ومكساج ومصور وموسيقى وإنتاج المخرج السعودي عبدالله آل عياف، لا يعدو أن يكون رؤية خاصة لهذا المخرج لمجتمعه، رؤية فيها اقتراب بارع من زوايا غير ملحوظة، ومن معاناة غير مرصودة، على الرغم من أنها تحتفظ بكثير من الأمل، فالطفل يصر على اللعب مع أن سماعته غرقت في المطر، والشاب المهدد بالعمى يصر على مشاهدة المباراة لا يمنعه من ذلك، حتى المطر.

يبقى أن الاختيار الأخير، الذي يقدمه لنا قرص مهرجان دبي، هو فيلم «الواقعية أفضل» للعمانيين داوود وياسر الكيومي 2008، وهو فيلم روائي قصير جداً، مدته 1 دقيقة. وفيه من التجريب الكثير..
هو عالق على حافة جرف كبير.. وآخر يصوره، ويحاول مد يد العون له، تارة، ومن ثم يرفسه، تارة أخرى.. هو يسقط.. ولكن ثمة من يقوم، من مكان آخر وبعيد، بتصويرهما والتقاط ما جرى..
هل يريد الفيلم قول إن ليس ثمة من جريمة كاملة؟.. ربما!.. هل يريد القول إن الحياة ما هي إلا متواليات من ضحية ومجرم وشاهد؟.. ربما!.. هل يريد القول إن الأمور دوال بين مجرم وآخر، والضحية تذهب إلى الهاوية.. أيضاً ربما!..
الأهم من كل هذا، أننا ننتهي بمشاهدة ثمانية أفلام خليجية، أصدرها مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته السادسة 2009، إلى أن ثمة صورة خليجية غير التي نعرف.. وأن مبدعين خليجيين يريدون قولاً مختلفاً عبر أفلامهم..

الأربعاء، 20 يناير 2010

في جديد ميشيل خليفي: «زنديق» ينفر ممن كفروا


لم يكن المخرج السينمائي الفلسطيني الكبير؛ ميشيل خليفي، بحاجة إلى هذه القسوة كلها، وهو يعود بفيلمه الجديد «زنديق»، بعد قرابة عقد من السنوات، على آخر إطلالاته السينمائية الروائية.
لا يبرر له ذلك تاريخه السينمائي العريض، وهو المخرج الذي أسّس لولادة السينما الفلسطينية الجديدة، حتى أننا كنا قد رصدنا له الجزء الأول، الأهمّ والتأسيسي من كتابنا «ثلاث علامات في السينما الفلسطينية الجديدة»؛ (دار المدى 2005)، باعتباره المخرج السينمائي الفلسطيني الذي أعلن صراحة عن وجود سينما فلسطينية خالصة، مختلفة، ومغايرة، ومفارقة؛سينما قادمة من قلب فلسطين المحتلة، وليس من الشتات، كما كانت العادة حينذاك..
ولم يكن للمخرج السينمائي الفلسطيني الكبير؛ ميشيل خليفي، أن يبصق على كل شيء، وأن يرميه طيّ النار، بدءاً من صوره القديمة، إلى مفتاحه العتيق، إلى صليبه العتيد، ليثبت لنا أنه مأفون ملعون في عالم فلسطيني، كل ما فيه يمضي إلى الدمار.
ما كان لميشيل خليفي أن يسمح لتلك الرسائل بالتدفق، من بين يديه، وعبر فيلمه، مهما بلغ به الحنق من حالٍ فلسطينية، بدت كأنما باتت تأكل نفسها، وبنيها..
سيبصق ميشيلي خليفي في البئر. وسيهزأ من تلك النبرة الدرويشية الصارخة: «أنا من هنا»، على ما فيها من نبرة التمسك بالبقاء في المكان. وسيبول على كل ما آمن، وآمنا به. وسيسكر، ويمجن.. في حفلة صارخة من جلد الذات، أكثر من نقدها. والكفر بما فيها، أكثر من التفكير بها!..
لن يقف المخرج ميشيل خليفي، على ما هو فيه من ثقافة ودراسة وعلم وخبرة، وسعة اطلاع، أتاحتها له تجربته المميزة، للتأمل المتأني، ولو لحظة واحدة، إذ أن شياطين عاصفة وأشباح هائمة تطارده، وهو يلوب لاهثاً في شوارع «الناصرة»، المدينة التي بدت أنها أقفرت من مارتها، ولم يبق ثمة من يجوس في شوارعها، سوى لصوص، وقتلة مأجورين، أو متطوعين.. وكثير من المجرمين!..
«ميشيل خليفي»؛ المخرج السينمائي الفلسطيني الكبير، والمبدع الرائد، الذي انطلقت السينما الفلسطينية الجديدة مع كاميرته أولاً وأساساً، منذ فيلمه الشهير «الذاكرة الخصبة» 1980، و«طريق النعيم» 1981، و«معلول تحتفل بدمارها» 1985، وتعرَّجت دروبه، ما بين ذروته الفنية في «عرس الجليل» 1987، ومن ثم أفلامه «نشيد الحجر» 1990، و«حكاية الجواهر الثلاث» 1994، و«الزواج المختلط في الأراضي المقدسة» 1995، انتهاءً بفيلم «الطريق 181» عام 2003، ها هو يعود مع فيلمه الروائي الطويل «زنديق» 2009، وقد أرهقته السنون، والحمل الكبير على كتفيه، والثقل الموجع في قلبه، ليبدو كأنما أراد أن يقوم بتصوير ما صارت إليه الحال الفلسطينية، بكل سوءاتها، بعد هذا الشوط.

غضب عنيف يرجّ ميشيل خليفي، فينفر، حتى بدا كأنما الغضب طار به على جناحه، فصنع فيلمه هذا من غضب. لم يشأ ميشيل خليفي أن يلتقط حكاية من الواقع الفلسطيني، من أحياء خلفية، أو من عالم سفلي، لم يعد خافياً على الكثيرين من الفلسطينيين، على الأقل كما فعل إسكندر قبطي في فيلمه «عجمي»، أو كما فعل توفيق أبو وائل في فيلمه «عطش»، فيدفع بالقول: هذا جزء من حالكم، فانظروا في أقبيتكم المعتمة!.. كما لم يشأ أن يبني حكاية من الخيال، ويحقنها بمعادلات فنية أو درامية، لتشير إلى سوءات الحال الفلسطينية، ليقول: فتشوا في ملابسكم، لعل أحدكم يعثر على شيء مما أصوّره في فيلمي، بين ثناياها!..
ميشيل خليفي، هنا، وكما شاء له من الهوى، يقف على حافة ذاته؛ أقصد تماماً تجربته الشخصية، لينطلق منها إلى محاكمات قاسية، سواء لتجربته الشخصية، وهو العلم السينمائي الفلسطيني الرفيع، كما للتجربة الفلسطينية العامة، وقد باتت لا تأبه به، ليس فقط لا تعرفه، بل أيضاً تطرده بلامبالاة من أمام أبوابها!.. وهو أمر مفجع حقاً.
ينبغي القول بداية، إن المخرج ميشيل خليفي، سيحقق، مع عودته المظفرة فنياً، وبعد طول غيبة، فيلماً متميزاً، دون شك، فيه الكثير من حرفية السينمائي المتمكّن، العارف بتقنيات الفيلم السينمائي، بل والقادر على خوض تحديات التصوير الليلي، والتجوال الخارجي، والسيطرة على ما يكتنفه هذا العمل من صعوبات، فضلاً عن السيطرة على مفرداته جميعاً، من ممثلين محترفين، يقف على رأسهم الفنان الفلسطيني الكبير؛ محمد البكري، أو ممثلين يظهرون للمرة الأولى، كالفنانة الفلسطينية، والوجه الجميل؛ ميرنا عوض.
ربما لا يحتاج ميشيل خليفي لأي شهادة نقدية، وهو صاحب الباع الطويلة، والتجربة الغنية في تحقيق الأفلام السينمائية، روائية وتسجيلية، وما راكمه خلال مسيرته الإبداعية من منجزات.. ومع ذلك، فإن التتبع النقدي لمسيرة هذا المخرج الكبير، تشير إلى أنه حقق فنياً خطوة واسعة على طريق تراثه السينمائي، تجاوزاً لما سبق أن فعله، على الأقل في فيلمه الروائي السابق: «حكاية الجواهر الثلاث» 1994، وما فيه من اقتراحات فنية وسردية.
«زنديق»؛ الفيلم السينمائي الروائي الطويل الجديد للمخرج ميشيل خليفي، هو فيلم كبير على أكثر من مستوى فني وتقني.. ويستحق التقدير والاحترام، لم تكن جائزة المهر العربي التي نالها في مهرجان دبي السينمائي الدولي السادس 2009، إلا أولى تباشيرها للعام القادم 2010، وفي اليقين أن هذا الفيلم سيراكم عليها المزيد من الجوائز، والتقديرات، والتكريمات، وسيكون سفير السينما الفلسطينية خلالها..

ربما سيُؤخذ على الفنان الفلسطيني الكبير؛ محمد البكري، وهو المطلوب منه الكثير، أنه لم يكن في أفضل حالاته الفنية، التي اعتدناها منه، خاصة وأن تعبيراته، في هذا الفيلم، بقيت تدور ضمن حدود ضيقة، ليست مُنتظرة من فنان بحجمه، وقدراته.. وربما كان من المأمول منه ما هو أكثر من ذلك، خاصة وأن بنية الحكاية وطبيعتها، ومركزية دوره، كانت تتطلب تنويعات انفعالية أكثر غنىً، وأعمق ثراءً، سواء على مستوى علاقته بالشخصيات المحيطة به، وذات العلاقة معه، أو على مستوى تحولات الحدث معه، وهو ما لم يظهر بحرفية على تعبيرات وجهه، التي بقيت على مستوى واحد.
مع فيلمه «زنديق»، سيبدو أن المخرج ميشيل خليفي يجرُّنا إلى إشكالية المضمون، وسؤال زاوية التناول، وصوابية وجهة النظر، وتوازنها، وموضوعيتها، أكثر مما يضعنا أمام الجوانب الفنية والتقنية.. فالفيلم يأتينا كأنما هو رسالة المخرج، أو وصيته، أو قولته في الشأن الفلسطيني برمته، ومصيره، ومآله.. وليس تناولاً لجانب من الموضوع الفلسطيني، أو تفصيل منه، كما هي عادة المخرج خليفي، في أفلام سابقة له!..
ونحن نقف أمام عتبة فيلمه «زنديق»، لن ننسى أن المخرج ميشيل خليفي هو من أسس للسينما الفلسطينية الجديدة، ولادة ونشوءاً وتطوراً، فهو مؤسسها ورائدها وعنوانها، ومن أطلق بيان وجود الفلسطينيين وحضورهم في مكانهم، وحضور سينماهم أيضاً، بذروة فنية اسمها «عرس الجليل».. كما لن ننسى أنه من أسّس لتيار لذاكرة الإنسان في السينما الفلسطينية، إذ ليس عبثاً أن فيلمه الأشهر جاء بعنوان «الذاكرة الخصبة»، كما أنه من أسّس لتيار ذاكرة المكان، على الأقل من خلال فيلمه «معلول تحتفل بدمارها»..
هكذا، ومتكئين على تراثه السينمائي الكبير، وتجربته الإنسانية الغنية، وفرادتها يجعلنا ميشيل خليفي، نقلّب وجوه أبواب الدخول إلى فيلمه الجديد.. فنحاول أن نأتيه في كل قراءة، من باب.. لنجد أنفسنا ننتهي إلى أسئلتنا المحيرة ذاتها.. وننتهي إلى الخلاصات ذاتها..
إن لم يكن «م»، بطل الفيلم، هو المخرج نفسه، فعلى الأقل هو المحتقن بذاكرته ذاتها؛ ذاكرة ميشيل خليفي، نتبين ذلك من لقطات الأفلام التي أنجزها ميشيل خليفي، التي تتوارد في لقطات استعادية، يمارسها «م»، في لحظات وحدة، ووحشة، وعزلة.. كثيرة هي التقاطعات بين «م»، المخرج في الفيلم، وميشيل خليفي مخرج الفيلم، حتى ليصح قول الأخطل الصغير: «لو مرّ سيف بيننا، لم نكن نعلم هل أجرى دمي أم دمك؟»!..
وفي الفيلم سيوف كثيرة، وجراح لا تنتهي، فيركض المخرج كليثٍ هصور، كليم، مألوم، في شوارع خاوية، فارغة، إلا من العزلة، والوحشة، البرد، وصرير الرياح، وصيحات قتلة ومجرمين، وربما طالبي ثأر منه.

تنحني القضية الفلسطينية برمتها، لتنال منها صفعات غاضبة، على وجهها، وجبينها، فتتهدم وتتداعى أمام ما فعل بها بنوها بها!..
بعد ستين سنة من النضال، والكفاح، والمقاومة، والاصرار على الحضور والوجود، ذاك الذي اكتسى في غالبيته الأعمّ سمة الانتماء ما هو حضاري مدني ديمقراطي، نكتشف إننا ما زلنا ننتمي إلى مجتمع الأخذ بالثأر، والعصبيات العائلية والقبلية والعشائرية، والطائفية والدينية!..
بعد ستين سنة مما قدمته مدينة «الناصرة»، الحاضرة العربية الرائدة، والتي احتضنت الفعالية الثقافية والسياسية والاجتماعية الفلسطينية، طيلة عقود من الاحتلال، والتي احتضنت وأنجبت وقدمت أعلام الثقافة الفلسطينية، من توفيق زياد وأميل حبيبي ومحمد علي طه، إلى ميشيل خليفي وإيليا سليمان وهاني أبو أسعد، وكانت المجال الحيوي لأعلام السياسة الفلسطينية في الداخل من عزمي بشارة إلى محمد بركة وأحمد الطيبي، وتنوع الأحزاب العربية.. (وعلينا أن نعتذر للكثير من الأسماء اللامعة التي أنجبتها الناصرة، أو احتضنتها، أو قدمتها، ممن لا نستطيع ذكره).. نقول: بعد ستين سنة من كل ذلك، سنرى مدينة «الناصرة»، فارغة الشوارع، موحشة، تصفر رياح الخوف والظلام في جوانبها..
صورة مؤلمة، تدعو للبكاء.. للوعة والحسرة.. هل هذه الناصرة؟!.. أهذه هي المدينة التي ملنا عليها، وقلنا لها: أنت عاصمتنا، بعد اغتيال يافا وحيفا وعكا، وبعد تدمير اللد والرملة، وإفراغ صفد؟!.. ونتساءل: هل هؤلاء الذي يركضون في الشوارع هم نحن؟!..
يمعن ميشيل خليفي فيما شاء له من القسوة.. ولا يكذب..
وينثر في وجوهنا ما أمكنه من حطامنا.. ولا يكذب..
ويذرو رمادنا في عيوننا حتى يعمينا.. ولا يكذب..
إنه صادق.. نعم.. لن يستطيع أحد اتهامه بالكذب.. حتى تلك الرسائل التي مرّرها، فهي على جانب من الحقيقة!.. رغبة الثأر العارمة، واستسهال إراقة الدم الفلسطيني على يد فلسطيني.. عصابات تهريب الأطفال من غزة، إلى إسرائيل، والاتجار بهم هناك.. عفواً؛ ليس استغلالهم في أعمال سوداء، كأيد عامل رخيصة، بل حتى انتزاع أعضائهم، وبيعها.. الاختراع الفلسطيني المفجع، أن يكون الفلسطيني سجيناً، أو أسيراً، ليس عند إسرائيل، فقط، هذه المرة، بل عند طرف فلسطيني.. في حزن مُضاف على حزن.
ربما يكون الفلسطينيون اليوم في منحدر عميق من عصر انحطاط.. وفي قاع من زمن انكسار.. وربما آلت تجارب فردية كثيرة، على ما كان فيها من أحلام وطموحات، إلى خيبة.. ولكن الزمن الفلسطيني ذاته، ما آل إلى الخسران التام، بعد!.. ثمة أمل ما زال يساور شاعراً هنا، وقاصاً هناك، وروائياً هنالك.. ثمة أمل ما زال يحدو سينمائياً ليبدع أجمل أفلامه، وتشكيلياً ليرسم أحلى لوحاته، ونحاتاً لينقش بأمهر ضرباته.. ثمة أمل ما زال يجيش في جوانح فتى طالع من زواريب مخيم، وفتاة تجدل ضفائرها أمام مرآة فلسطين، تغني لغد أفضل، على الرغم من كل السواد الذي يظلل حواف تلك المرآة.
ميشيل خليفي.. رفقاً بنا.. وإن جدَّ جدُّ لن تكون وحدك ذاك الـ «زنديق»!..

الجمعة، 15 يناير 2010

«عصافير النيل».. في لعنة الجغرافيا.. لا أحد بطلاً..



لعل ليس من المغالاة، في شيء، القول إن فن الرواية هو الأكثر بين الفنون النثرية، والإبداعات الكتابية، جميعها، الذي يستطيع أن يقدِّم معرفة بالواقع.. بل إن جورج لوكاتش ذهب إلى الدرجة التي رأى فيها أن ما تقدمه الرواية، إنما هو نمط من «المعرفة الموضوعية»، بما يعني أن الرواية هي الأكثر قدرة على إدراك الواقع، وقراءته، وتحليله، وإعادة بنائه.. في مسعى لتفسيره وتحليله..
الرواية في فهم من هذا الطراز هي كتابة في الذات والموضوع. كتابة تدرك الماهيات بتحوِّلها، وتحرّكها في الشرط التاريخي، بتفاصيله الدقيقة، والفاعلة في آن، وفي مصائر البشر العاديين.. عند ذاك لا تعود الكتابة في الرواية نزقاً، ولا ردَّ فعل، بل محاولة جادة وواعية للغوص في عمق الظاهرة، بمعزل عن إرادة الروائي، ورغباته.. وربما نزواته..
الرواية أولاً هي ذاك الفعل الإبداعي الذي يتجاوز حكايته، دون أن يفقدها أو ينكرها، ليكون بيان وجود عن ثقافة معبرة عن ذاتها، بكلمات مهمتها صنع العالم.. إنها كلمات.. نعم.. ولكنها تحاول إعادة صياغة العالم في مسعى لفهم أدق، ووعي أعمق، وفض الالتباسات، وكشف الغوامض..
وعندما يختار المخرج مجدي أحمد علي، في فيلمه الجديد، الاتكاء على نص روائي للأديب إبراهيم أصلان، وبالعنوان ذاته: «عصافير النيل»، فهو دون أدنى شك يدرك ذلك كله، ويعرف ما الذي يقتضيه القيام بأفلمة رواية، على هذا المستوى من العمق، ومن التشابك، فضلاً عن الروعة والشاعرية.
تحطيم السرد.. تعدد مستوياته

يبدأ فيلم «عصافير النيل»، انطلاقاً من لحظة زمانية محددة؛ هي لحظة اللقاء فيما بين «عبد الرحيم» و«بسيمة»، في رواق مشفى ما!.. وإذا كان من المتعذر العثور بوضوح، وفي المشاهدة الأولى، على دلالة تلك اللحظة، إلا أن الفيلم سرعان ما يعود بالخطف خلفاً، إلى لحظة اللقاء الأولى للعاشقين الآفلين.
وسيمضي الفيلم، منذ تلك اللحظة، في سرد صاعد مع الزمن، تخترقه حضورات متكررة للراهن، مع استرجاعات للماضي، ينجزه صوتُ راوٍ، يبدي معرفة ورؤية كلية منجزة، تجاه الزمان والمكان والشخصيات وتفاصيلها.. ويراوغنا في حديثه، ليغوينا بالمضيِّ معه حيث يريد، ويورِّطنا في لعبته الروائية.. ولا يترك الصوت الراوي وسيلة، إلا ويستخدمها؛ بدءاً من الوصف، إلى الحوار، إلى التداعي، والتأمل، والاستعادة عبر الذاكرة، وإرسال الحكمة، وصولاً إلى التوغُّل في جوانية الشخصيات، وفضح دواخلها، وما يعتورها، من مشاعر وأفكار، أو هواجس وأوهام..
ينتهج الفيلم طرائق سرد متعددة، تتراكب وتتكامل فيما بينها، مع تعدد الأصوات، وتتالي الاعترافات، والانتقالات المتبادلة والمتتالية، بين الآن وهنا، أي الحاضر الراهن بأساه، وبين هناك وما مضى، بتعرجاته وتحولاته التي أسست لمصائر الشخصيات..
ومن المُدرك أن طريقة تعدُّد الأصوات الروائية، تقوم بكسر السرد، والتخفيف من حدَّته، وتصاعده.. كما تنجو من رتابته، وتحقِّق إفلاته من أيِّ إملال، يمكن أن يصيبه، وتنجو من مطب إيراد الفيلم سياقات متوقَّعة، ومفضوحة سلفاً، من قبل المتلقي.. بل هي طريقة تقوم أيضاً وأولاً، بتفتيت الحدث، وتشظيته، وإعادة إنتاجه، مرة وأخرى، منظوراً إليه في كل مرَّة، من زاوية، ومن خلال وجهة نظر المتذكر، أو الصوت المتكلم، بتعدده، واختلافه.. كما أن تعدد مستويات السرد يمكن له أن يضفي شاعرية ما على أجواء العمل، وهو ما تحقق محفوفاً بحرفية التصوير، لرمسيس مزروق، وحركة الكاميرا التي لم تهدأ في استعراض (بان، وتيليت)، صاعدة نازلة، وذات اليمين والشمال، وكأنما تمسح بكفّها الوجوه والأمكنة والتفاصيل.
ثنائية الريف/ المدينة..

يعود فيلم «عصافير النيل»، كما الرواية، إلى الموضوع الأثير في الأدب العربي خلال القرن العشرين، وهو موضوع ثنائية الريف/ المدينة. وهنا نؤكد أنه وعلى الرغم من اقتراب الفيلم من موجة «سينما العشوائيات»، إن صحَّت هذه التسمية، إلا أنه لا علاقة له بها أبداً. إنه أبعد وأكثر عمقاً وأغزر دلالة من ذلك. الموضوع هنا هو تلك الإشكالية الهائلة التي عاشها العالم العربي، ثنائية الريف/ المدينة، والتي نعتقد أنها قوَّضت المشروع العربي برمته، تماماً كما انتهت بالريفيين إلى مصائر دامية على حافة المدينة.
وهكذا، فعلى الرغم من أن المكان في فيلم «عصافير النيل» هو المدينة، إلا أن الفيلم لم يقدم أيَّ شخصية تنتمي إلى المدينة!.. جميع الشخصيات في الفيلم هم من أبناء الريف.. إنهم ضيوف على المدينة، أو وافدون عليها.. ورغم أن الجزء الهام من أعمارهم أمضوه في المدينة، وأن بعضهم جاء إلى المدينة محملاً بأحلامه، والتدرج على السلم الاجتماعي والحياتي.. إلا أن الأمر المثير، هو أن لا علاقة حقيقية نشأت بين الشخصيات الريفية والمدينة..
كأنما هم غرباء فيها، وكأنما هي تبدي الصدود تجاههم.. كأن المدينة انغلقت على ذاتها، واحتفظت بأسرارها، التي لن يدركها الريفيون، ولن يخترقوا الجدران الكتيمة التي سوَّرت نفسها بها.. فبقيت المدينة ميداناً/ مكاناً، يتحركون فيه، يفعلون ويتفاعلون (فيما بينهم كريفيين) فيه، دون أن يصلوا، أو يتصلوا بالمدينة!..
المثير في الفيلم أن الجميع هم من أبناء الريف، الإيجابيون منهم والسلبيون، الجلادون والضحايا، الفاعلون والمنفعلون.. إذ لا نرى أياً منهم كجزء من البنية الاجتماعية في المدينة، بل لا يتواصل أي منهم مع أيٍّ من تعبيرات المدينة، يتفرجون عليها، ولكن لا يعيشونها.. إن المدينة على اتساعها تنغلق في وجوه شخصيات الفيلم، فيلوبون في شوارعها، ويتوزعون في أركانها، ويتصادمون فيما بينهم، في الوقت ذاته الذي تبدو المدينة سادرة في هدوئها، تنظر (وربما تنتظر) إلى أية هاوية ستؤول أحوال أولئك الريفيين!..
وإن كان للفيلم أن يلامس موضوعة «الريفي إذ يفد المدينة»، من ناحية ما تحتمله من طرائف، «كأن لا يعرف طعم التفاح، مثلاً»، وهو متوفر في العديد من الأفلام العربية، فهو لم يبتعد أيضاً عن موضوع الهوس الجنسي الموسوم به الريفيون، وبشبقهم العالي حتى للنساء اللواتي لا يمتعن بالجمال الصارخ، وسيمنح الفيلم وقتاً فائضاً لعبد الرحيم وهو يتمرغ في أحضان نساء لسن فاتنات، ولا ممتلكات لمقادير من الجمال، بل هن محض مغويات.
ومن الذكاء أن المخرج مجدي أحمد علي حاذر الاقتراب من أي أقنوم جمالي في السينما المصرية، فبدت جميع الشخصيات النسوية في الفيلم موضوعاً جنسياً مباشراً، فاقدات للكثير من المواصفات الجمالية، وهو ما يكاد يتسق مع فكرة أن الجمال والأناقة والرقة، هي من صفات النساء المدينيات، بينما الريفيات يقفن على حافة القليل من الجمال، وإن امتلكن شيئاً منه، فإنهن سرعان ما يقمن بتشويهه بالماكياجات الصارخة.

وبالاعتقاد أن الأهم في الشخصيات الفيلمية، هو ما يمثله الفتى «عبد الله»، ذو النزوع السياسي، والمنتمي كما يبدو إلى المشروع التغييري، الذي التحق عبره الكثير من أبناء الريف وانتسبوا من خلاله إلى شوارع السياسة المدينية!.. إن الفيلم يتوافق هنا تماماً مع واقع الحال، ومجريات الأمور التي بدأت تقريباً مع النصف الثاني من القرن العشرين.. أي أنه ينطلق من معرفة وإدراك وملاحظة ذكية لما حصل منذ مطلع الخمسينيات، على الأقل، إذ في لحظة تاريخية ما أعقبت فترة الاستقلالات الوطنية، ورحيل جيوش الانتداب، بدأ الريف العربي بالتعبير عن ذاته، من خلال انخراط الكثير من أبنائه في السياسة، سواء الأحزاب، أو الجيوش (الوطنية)، التي كانت قد بدأت بالتشكّل عندما كان الانتداب يشهق آخر لحظاته، ويكاد يلفظ أنفاسه..
لن يذهب الفيلم كثيراً مع «عبد الله»، ولم يكشف لنا عن أي مصير يلاقيه، على الرغم من أن الواقع قال قولته الحاسمة في هذا الإطار، فلم تتوقف المصائر التراجيدية عند أمثال «عبد الرحيم» و«بهي» و«الرشيدي»، بل لعلها طالت المشرع السياسي الذي قاده الريفيون، واقتحموا به المدينة. وإذا كان جمال عبد الناصر (كما الأسد، وصدام، والقذافي)، الريفي القادم من أقاصي الصعيد المصري، قاد وأسَّس لمرحلة كاملة من مشروع وطني وقومي، فإنما ذلك كان، في الوقت نفسه، إعلاناً عن انقلاب حقيقي على النخب السياسية المدينية، وتراجعها وعزلها، والشروع بالدور الذي سيتولاه ويقوده أبناء الريف، عسكرياً، وسياسياً، ومشروعاً اجتماعياً ثقافياً.. فمن الضروري القول إن هذا المشروع انتهى في أغلبه الأعمّ إلى الفشل!.. فلم يكن بالمستطاع «ترييف المدينة»، رغم كارثة الهجرة الداخلية، من الأرياف إلى المدن، التي كان إحدى أدنى نتائجها، الإخلال بالتوازن الاجتماعي، وضرب تناسقه، وتخريب لياقته، ونشوء مناطق السكن العشوائي، وما تحفل به من مفاسد ومخاطر، وانحرافات اجتماعية وتربوية وأخلاقية.. وإفساد التطور الاجتماعي، في مجتمع من المفترض أنه كان يقف على عتبة تحولات كبرى في حياته الراهنة، وتحديد اتجاهاته المستقبلية..
كما كان من أدنى نتائجها الإخلال بالتوازن البيئي، لناحية استنزاف الموارد الطبيعية، من حيث نضوب الثروة المائية، وتحول المدن إلى مناطق مهددة بالجفاف، وتصحير المناطق الخضراء، باقتلاع الشجر، وزرع غابات الإسمنت، وما أدى إلى تلويث البيئة، وإفساد المناخ.. كل هذا فضلاً عن إفراغ الريف من الطاقات الشابة، القادرة على تطويره وتنميته.. وتحول الريف جراء ذلك إلى هامش عاجز عن المساهمة الفعالة بدوره الحقيقي.. الأمر الذي جعل البلدان العربية، الزراعية، أصلاً وأولاً، تستورد المنتوجات الزراعية من خلف البحار، أو تشهد فقراً فيها، تبدى عوزاً، وغلاء أسعار، ونقص مواد، وصل إلى حدّ الجوع الحقيقي..
ليس السؤال هنا حول قدرة الريف على حمل مهام المشروع الوطني والقومي، أي المشروع الحلم.. فهذا أمر آخر.. لكن السؤال هو عما تجلَّت عنه التجربة في شكلها الذي تمّ، والنتائج التي انتهت إليها.. وهي تجربة بحاجة إلى قراءة وتحليل وتدقيق، ومراجعة تاريخية، دون أدنى تجنٍّ!..
فيلم «عصافير النيل»، لم يكلِّف نفسه عناء الخوض في هذا الغمار، واعتقد أنها ليست مهمته، بل إنه اكتفى بتبيان مآلات الخسران، وتهافت التجربة. وعلى هذا لم يتردد الفيلم كثيراً في الذهاب إلى قول الحقيقة، مهما كانت موجعة، وكشف المصائر مهما كانت فاجعة.. وسيستكمل الفيلم قولته، تلك، بالتأكيد على أن العودة إلى الريف هي سبيل الخلاص!.. فلا يتوانى عن الوشاية دائماً بأن على الريفيين العودة إلى الريف، ولو جثثاً!.. وستلاشى في الفضاء توسلات الأم «حدّ ياخدني البلد».
خاتمة.. ما

فيلم «عصافير النيل»، للمخرج مجدي أحمد علي، نص إبداعي متماسك، ونسيج بارع، وأداء راق ينساب هادئاً رائقاً، دون أن يفقد توتره، وانشداده كخيط حرير، ذاك الذي يفوق أعتى المعادن قدرة وصلابة وتماسكاً.. خيط ينسل من أرواحنا وأحلامنا، يأتي من نور، ليضيء تلك الزوايا المعتمة في التجربة..
لم نقل «اللهم نجنا من التجربة»!.. بل انخرطنا فيها.. فولغت في دمنا..
وكان صباح.. وكان مساء.. وكان ما كان.. والفيلم يتجرأ على قول بعضه..

الثلاثاء، 12 يناير 2010

«إلى أبي».. مرثية التاريخ السياسي والنفسي الفلسطيني، من خلال الصورة



بذكاء يدّعي المخرج عبد السلام شحادة أنه سيحكي حكايته الخاصة، فتتقدم صورة فوتوغرافية لطفل ربما في السادسة من عمره، وبعد صمت، يتلوه صوت المخرج يعرّف عن نفسه، ويدعونا لسماع حكايته: «أنا اسمي عبد السلام».. يقول المخرج، ويحدد مولده بعد الهجرة بـ 13 سنة، لعله يعيد إلى ذاكرتنا المنشغلة بالراهن، وسوءاته، أن للتاريخ الفلسطيني بداية، أو قل نهاية!.. إنها الهجرة.. المسماة «نكبة» في أدبيات السياسة العربية.. على الرغم من أن نكبات أخرى لم تتخلف عن اللحاق بها!..
صارت الهجرة في العام 1948 ذكريات وصور.. وصار لكل منا حكايته، وروايته، لهذا المدى الممتد على عمر النكبة.. «بس أنا كمان صرت حكاية.. خليني أحكيها».. هكذا يستأذن المخرج من مشاهديه، ويدعوهم في رحلة تمتد 53 دقيقة، هي مدة الفيلم، فيها الكثير من الصور، والكثير من الكلام المرسل باللهجة الفلسطينية، الخليطة ما بين الغزية من ناحية، وبقايا ما حمله اللاجئون من قراهم إلى قطاع غزة الذي يبدو أنه صار ملجأهم الأخير، من ناحية أخرى..
ما بين صوت المغني سيد مكاوي، وهو يتدفق من الفونوغراف، مترنماً: «يا حلاوة الدنيا يا حلاوة»، والكاميرا التي تتأمل الفونوغراف، وكأنما تريد تلمس تفاصيله، والحزوز المرسومة على قرصه.. ندرك أن صوت الفونوغراف، ومرآه، ورؤية تفاصيله، تحيلنا دفعة واحدة إلى الصور الفوتوغرافية القادمة من ذاك الزمن الجميل «زمن الأبيض والأسود»، وتلمس ذاك التضاد البيّن، بين ما كان وما سيكون..
«الصورة زمان كانت كبيرة وواسعة.. كان فيها بحر وشجر وهوا.. الصورة كانت بتتنفس بالمكان.. زينا بالزبط».. يقول المخرج، الذي أرد أن يضع صوته على شريط الصورة، ربما في طموح منه للخروج بفيلم فيه من الذاتية الخاصة، والحميمية العالية، والتفلت من الرصانات الرسمية، الكثير..
الصورة تحيل إلى الذاكرة، إلى ما بقي من ذاك الزمان.. وهاهو يتذكر كاميرا التصوير، ويتغزل بها كما أجمل أنثى.. يؤنسن عبد السلام الكاميرا، ويمنحها كل صفات الجمال والرقة.. كل صفات الذكاء والمبادرة.. يستعيد كبار المصورين القدماء، الذين كانوا في غزة الستينيات.. ويعيدهم للوقوف وراء الكاميرا، كما يستعين بمشاهد جميلة لإحياء أيام الجلوس أمام الكاميرا.. يستعيد الفاصيل والطقوس التي كانت تسبق التقاط الصورة التي ستغدو تاريخ لحظة هاربة من الزمان الذاهب دوماً إلى الانطفاء.. من خلال مشاهد ديكيودراما، مصورة باللونين الأبيض والأسود، بما يليق باستذكار تلك الأيام، واللحظات.. قبل أن يعلن المصور كلمته الأخيرة: «مبروك»..

قبل حضور الصور، يحضر صانعوها، ممن اشتهروا قبل أربعين عاماً: إبراهيم حرب، الحاج رمضان، أبو غسان، سليم، العزازي، عزت، الحاج سلامة.. ومع حضورهم الآن، وقد انحنت قامات تحت ثقل الإيام، تحضر الصور: عبد الناصر، عبد السلام عارف، عبد الحليم، فريد، أم كلثوم.. وشباب يقلدون نجوم السينما العالمية مثل آلان ديلون.. وتمر مئات الصور المجهولة الأسماء، ولكن الواضحة التعابير والهيئات والملامح، وكأنها تنبض بتلك اللحظات التي التقطت فيها..
«الصور كانت حلوة.. فيها ظل، بيخلي للصورة أبعاد، وتحسسنا بالمكان وجماله، وبتخلينا نحس كأنوا بدنا ندخل بالصورة».. والصورة ذاكرة وتاريخ، وإشارات واضحة إلى واقع شخصياتها.. من نظراتهم وملابسهم وطريقتهم في الجلوس، يمكننا معرفة الكثير عن ذاك التاريخ.. يمكننا تلمس الحالة النفسية والاجتماعية لأصحابهم، مفارقات واقعهم وأحلامهم وطموحاتهم وأشكال التعبير التي يمتلكونها..
«كنا نحب بعضنا كثير».. كأنما هي جملة رسالة في زمن الكراهية، العابق الآن.. وعبد السلام يتمنى أن يصور تلك الصور التي كانت مليئة بالأولاد المتخاصرين، والسواعد الملتفة على الأكتاف، والرؤوس المائلة إلى بعضها البعض، والابتسامات المشعشعة.. لكن كيف يمكن له أن يعيد تلك الأيام، وكيف يمكن أن يجمع الأولاد، ويعيدهم صغاراً، وقد مضوا؟..
وكيف له أن يستعيد حلاوة تلك الأيام، في ظل بشاعة الآن؟.. «العينين زمان كانت غير.. كانت أحلى بكتير.. اليوم العينين بتشعر إنهن زي بعض.. بطّل في إلهن لون.. مش عارف هالأيام شو اللي تغير؟.. الكاميرا وإلا العينين؟»..
وفي مفارقة لطيفة، ينتبه المصور إلى أنه في زمن الأبيض والأسود «كان الناس مقلوبين في الكاميرا.. اليوم صاروا بالكاميرا عدلين.. بس في الواقع تغيروا».. كانت الصور أحلى، وكانت الحياة أسهل.. هذا ما تنتهي إليه ذاكرة المخرج، وهو يتجول في عالم الصور، الذي وجد منهله من أرشيف «رامتان» الغني.
«حاسس إنو كنا بنصور حالنا، كأنوا خايفين على المكان يتغير، ينهدّ، أو ينقصف، أو يتجرف، أو ينحرق.. أو الشجر يروح.. أو أصحابه يسيبوه».. يقول، فكانت حرب 1967، ضربة قاسية وموجعة، جاءت لتهز الصورة.. تقلقها.. تزعزع بنيانها.. والفيلم يظهر هلع الناس، وخوفهم، من الصور.. صار الناس يرمون الصور، ويتخلصون منها.. احترقت صور، واختفى أشخاص، وغابت أسماء.. ليس فقط الضابط المصري الذي ذهب دون وداع.. وبات جند الاحتلال يصادرون ألبومات الصور، ويعتقلون الناس بناءً على الصور.. «صارت الصور تخيفنا»..

اختفى عالم الصور الأليف، المليء بالبراءة والعفوية.. لم يعد العروسان يرتديان بذة العرس، ويذهبان إلى أستوديو التصوير لالتقاط صورتهما، كأنهما في ليلة العرس.. وكفت الفتيات والشباب والرجال والنساء عن طلب الصور الفنية، أمام لوحة معلقة على جدار الأستوديو، فيها شجر وعصافير، أو نهر وبحر، وقلعة وجسر.. ولم يعد المصورون يضعون الصورة في إطار على هيئة قلب، أو وردة، أو فنجان.. ولا بذل الوقت في وضع الرتوش، وتزيين الصور، ومنحها شيئاً من الظلال، ووضع شامة لكل فتاة..
«الاحتلال كثّر صورنا.. وغيّر بطاقات الهوية كثير.. مرة خضرا.. ومرة حمرا.. ومرة صفرا.. صارت الصور للهويات.. والكاميرا بتطلع صور فورية.. كانت بتصور سكان رفح بيوم واحد».. تغيرت الصورة، واستبدل دورها، صارت أداة تواصل بين الداخل والخارج، وانتشرت الكتابات المنمقة، والرسائل، على ظهر الصور.. فضلاً عن صور وكالة الغوث، التي تحرص على أن توزعها، في المجلات والنشرات..
في الانتفاضة الأولى حمل عبد السلام شحادة الكاميرا.. وهو يقول إن الكاميرا منحته القوة، الجرأة، الإحساس بالحرية.. عبر الكاميرا رأى أطفال الحجارة، ورافقهم، كما تعرف على جند الاحتلال، وصورهم وهم يطلقون النار، وكأنهم في حفلة صيد.. «الناس ترمي أحجار.. وصورنا صارت على كل التلفزيونات».. وبدا أن هذا تحول جوهري في صورة الفلسطيني، انتهى عام 1993 إلى نشوء السلطة الوطنية، وعودة ياسر عرفات..
مع السلطة، وعلى الرغم من الذهول والارتباك الذي أصاب الصورة، ألا أن أبرز ما فيها كان صورة العلم الفلسطيني مرفرفاً.. «كانت الأعلام جديدة.. بطلت ممنوعة.. وما عاد نتحاسب على رفعه».. ويعترف المخرج «صدقنا السلام.. الجنود ما صدقوا.. آخر دورية وهي تغادر غزة قتلت ولداً.. صوّره صديق أشرف»..
جاءت الانتفاضة الثانية 2000، وشاع القتل، والتدمير، وتجريف الأراضي.. صار الجمال يختفي.. صارت الصورة ملونة.. وبشعة.. والاحتلال زادها بشاعة.. تغيرت الصور والمعاني.. صارت الصور في الشوارع وع الحيطان.. في الميادين.. والصالونات.. وعند الرسامين والخطاطين.. والمصور صار خايف من الصورة.. بطّل يتدخل فيها.. ويضويها.. وبطّل يروتشها، ولا يحمضها.. صارت الصور تبكينا.. صارت الصور تطلع من المطابع.. صارت ملصق، أو بوستر، للشهداء والأسرى..
ومع ظهور اللثامات على الوجوه، ما عدنا نعرف أنفسنا، ولا هم عارفينا، ولا عارفين حالن.. الصور صارت كثيرة، وتشبه بعضها.. الصور مش مفهومة.. مش واضحة.. والملامح تغيب!..

يعترف المخرج أن ثمة من يسأله عن الصور القاتمة التي ينجزها الآن.. وهو يقول: يا ريت أستطيع أعمل صورة، وأضويها، وأروتشها.. وتكون فيها بلادنا كبيرة، وفيها شجر، ومطار، وميناء، والحدود مفتوحة.. ولكنه سيتأسى كثيراً، وهو يرى هذا الانهيار التراجيدي للصورة الفلسطينية، ويشعل شمعة أمل، ويطلق صرخته: «خلينا ندير بالنا على صورنا.. ونخلي بكرا أحلى»..


المخرج عبد السلام شحادة في «قوس قزح»


على الرغم من الوشاية الأوَّلية التي ينبئ بها فيلم «قوس قزح»، والتي تُوحي بأنه يريد الانتماء إلى نسق أفلام «البورتريه الشخصي»، وذلك من خلال الانطلاق من صورة مخرج الفيلم عبد السلام شحادة، ذاته، وهو منغمس بالكتابة، في مشهد متقن التنفيذ، وعلى الرغم من أن صوت المخرج يتدفق من خارج الكادر، ليشكو إلينا تزاحم الصور في مخيلته، ويبدو وكأنه يريد أن يقصّ لنا حكايته مع الصور، وإلى اين تقوده..
أقول، على الرغم من ذلك، إلا أن فيلم «قوس قزح»، سرعان ما يشقّ دروباً غير منتظرة، ويقصُّ حكايات غير متوقعة، حتى ليبدو في وهلة أولى أن ليس ثمة من جامع لها سوى الشريط الفيلمي الذي استقر عليه المخرج، بمشيئته هو، وبالصيغة التي سنراها.
والمخرج عبد السلام شحادة، المولود في رفح عام 1961، هو أحد محترفي التصوير السينمائي والتلفزيوني في فلسطين، خاصة في قطاع غزة، إذ عمل في التصوير ومراسلة المحطات التلفزيونية العالمية، فكان المصور الرسمي لوكالة NHK الفضائية اليابانية، ومصوراً لصالح محطة BBC البريطانية، كما عمل لصالح وكالة رويترز، والتلفزيون السويسري، وأبو ظبي، و«آر تي إل»، و«أي تي إن»، و«إس آر دي».. قبل أن يصبح مدير الإنتاج في وكالة الأنباء الفلسطينية، عام 1999، وقبل أن يصبح مديراً عاماً لقسم الانتاج في وكالة أنباء «رامتان».
وفي الوقت الذي عمل مصوراً مع العديد من المخرجين السينمائيين الفلسطينيين، وفي العديد من الأفلام، فإن خياره نحو الإخراج السينمائي كان واضحاً منذ أن عمل في فيلم «يوميات فلسطينية» 1991، بالاشتراك مع سهير إسماعيل، نزيه دروزة، والذي كان نتاج ورشة عمل، استمرت ستة أشهر، نظمتها «مؤسسة القدس للإنتاج التلفزيوني»، وتم خلالها التدرُّب على كيفية استخدام الكاميرا، وطرق التعامل معها، ثم تمّ تطوير السيناريو الذي استفاد من كون ثلاثتهم يمثلون القطاعات الرئيسية للمجتمع الفلسطيني، في مدينة وقرية ومخيم فلسطيني.

عبد السلام شحادة، ابن مخيم الشابورة، في رفح، والمقيم في غزة، عرف استخدام الكاميرا منذ البدء لرصد واقعه، ونقله إلى العالم عبر شاشات المحطات التلفزيونية، وقنوات الفضائيات، ومن ثم عبر السينما، وبالتالي كانت كاميرته مرصودة للعمل على تسجيل وتوثيق الحالة الفلسطينية، فتميزت أفلامه بالتعاطي مع الواقع، والابتعاد عما هو روائي أو تخييلي.
من هنا جاءت أفلامه: «البيئة» 1994، «حقوق المرأة هي حقوق الإنسان» 1995، «الأيدي الصغيرة» 1996، «بالقرب الموت» 1997، «الماء.. التحدي الحقيقي» 1998، «الظل» 2000، «حجر بحجر» 2000، «العكاز» 2000، «ردم» 2001، «نحن نسمعكم، من فضلكم اسمعونا.. شكراً لكم»، ومن ثم «قوس قزح» 2005، وأخير فيلمه «إلى أبي» 2008، لتتناول موضوعات مختلفة من الحال الفلسطيني، في علاقتها مع الذات الفلسطينية، أو المصير الفلسطيني، أو في انخراطها في الصراع مع جيش الاحتلال، أو مع المستوطنين.
في لحظة مبكرة من عمر السينما الجديدة، انتبه عبد السلام شحادة إلى أهمية موضوعات كالبيئة، والصراع على المياه، في منطقة تشكو من شحّ الماء. كما انتبه إلى حقوق المرأة، وإلى المعتقدات الخرافية الشائعة، وارتباطها بالوعي، أو غيابه، مثلما ناقش عمالة الأطفال، وخطر المستوطنات، والاعتداءات على المدنيين.
ومن المفارقة أنه إذا كان الإسرائيليون يصنعون «قوس قزح» بدباباتهم، وطائراتهم، ويجعلونه موتاً يحيق بالفلسطينيين، خاصة تلك العملية المدمرة التي جرت في أيار 2004، وحملت الاسم نفسه: «قوس قزح»، وانجلت عن مقتل 50 فلسطينياً، وتدمير 400 منزل، وأعادت الفلسطينيين إلى حال شهدوها قبل 56 سنة، في أيار من عام 1948 وبقوا منذها يسمونها «النكبة».. فإن مخرجاً فلسطينياً سوف يحاول رسم «قوس قزح» آخر، بكاميرته السينمائية، محاولاً القول: «إن الحياة ستستمر».
لامجال للمقارنة بين هذين القوسين، وربما الأقدار الدامية، بحضورها، أو بمفارقاتها، هي التي تجعلنا ذاهلين أم الكاميرا، لنرى ونستمع إلى تلك القصص التي التقطها عبد السلام شحادة، وهو يحاول الانتقال من مدينة غزة، حيث يقيم، إلى مخيم رفح، حيث تقيم أمه، المفجوعة دائماً، بالغيابات المتتالية، والمقيمة على جمر انتظار..

يعترف عبد السلام شحادة أنه بات يشعر بالخجل، وهو يراقب ما يجري من عين الكاميرا.. إنه يظهر لنا جالساً فوق الركام، مع كاميرته، ويقول: «تعبت.. حاسس بالخجل، وأنا بتفرج ع الناس بكاميرتي».. والناس ما هم إلا أهله، وجيرانه، ومعارفه، وأولئك الذين ستكون الكاميرا طريقته الخاصة في التعرّف إليهم.
من الفنان «إبراهيم المزين»، صديقه منذ الطفولة، إلى «رائد مطر» الذي فقد أسرته كاملة بضربة واحدة، كانت تريد النيل من صلاح شحادة، فأحالت عمارة من عدة طوابق ركاماً، وكان رائد الناجي الوحيد، من أسرته، ربما ليقصّ علينا تتمة الحكاية، أو ليحلم باحتفاله بعيد الميلاد الذي لم يتمّ، لأن صاروخاً زنته طناً كاملاً، حلَّ ضيفاً قاتلاً على الأسرة المجتمعة حول سعادة سرعان ما انطفأت..
وفي حين نرى اللُّعب والأشياء، والكنزة التي لم يسنح الوقت لـ «محمد»، ولده الصغير، أن يلبسها، ولو لمرة واحدة، فقط.. ينحت الفنان إبراهيم المزين تلك الوجوه الناهضة من بين الركام، ليشكّل منها عملاً فنياً يتضمَّنه معرض تشكيلي بعنوان «وجوه من رمل»..
الفلسطينيون الراغبون في أن يُعرَفوا بأنهم من محبي الحياة، لا من هواة الموت، يستخرجون من المآسي المتلاحقة عصارات إبداع، في الفن التشكيلي، كما في السينما، وقد سبق أن فعلوا ذلك شعراً..
ولكنه الموت الذي لا يشبع، فإذ يستذكر عبد السلام شحادة أحد أفلامه «يوميات فلسطينية»، يحضر المخرج المصوّر نزيه دروزة الذي استشهد برصاصة قاتله، وهو متأبط كاميرته.. كما تحضر الطفلة «روان»، وتدمير بيوت العصافير الصغيرة، على الأسطح الواطئة، واستشهاد الطفلين «أحمد» و«أسمى».. في حكايات موت لا تنتهي..
يتحوَّل فيلم «قوس قزح» من رصد معاناة المخرج في التنقل بين غزة ورفح، إلى الحديث عن رفح، ولقاء المخرج بأمه، وحديثه معها عن علاقته بوالده المتوفى.. ومن ثم الحديث عن جارته «عندليب» التي تفتحت عيناه على الدنيا، وعليها، ومن ثم أصبحت زوجته.. فيما يبلغ الفيلم واحد من ذراه بحكاية صاحب مزرعة الورد، والثلاجة المخصَّصة للحفاظ على نضارة الزهور، ريثما يتم تصديرها إلى أوروبا.. فكان أن تحوَّلت الثلاجة إلى برَّاد يضم العشرات من الجثث البشرية المدماة، والتي تنتظر الدفن، ريثما يصمت القصف، وتهدأ المجنزرات..
«لم أكن أتخيل أنني سأمضي الوقت في تصوير الموت والدمار.. كنت أرغب في تصوير حياة وحب وأمل».. يقول المخرج عبد السلام.. وهو الذي انتبه إلى أن فيلمه صار محشواً بالكثير من قصص الموت والدمار، وكفّ عن أن يكون مجرد «بورتريه شخصي» لمخرج أراد أن يحكي حكاية حب وانتماء..
فيلم «قوس قزح» للمخرج عبد السلام شحادة، كانت له المشاركة في مسابقة رسمية، حملت عنوان «Earth Vision» في العاصمة اليابانية، طوكيو، وكان أن فاز بالجائزة الأولى، متجاوزاً في التصفيات الأولى قرابة 1200 فيلماً، من شتى أنحاء العالم، ومتفوقاً على 17 فيلماً في المرحلة الأخيرة، لينال الذهبية، موقداً الأمل بأن «الحياة سوف تستمر»، رغم كل شيء..

الجمعة، 8 يناير 2010

هادي ماهود.. سلامتك


في أزمته، وقد تعرض لحادث سير إثر عودته من مهرجان دبي السينمائي الدولي السادس، يحتاج المخرج العراقي المميز هادي ماهود إلى ما هو أكثر من التعاطف.. بل، من المؤكد أنه يحتاج للدعم والاحتضان، للتكاتف والمساعدة، يحتاج أن تتقدم المؤسسات العراقية، والعربية، على السواء، بل وكل المعنيين بالثقافة والإبداع، والمبدعين.. لاستعادته إلى الصحة، وإلى عالم السينما والإبداع، التي أثبت هادي، في كل لحظة، أنه واحد من روادها الجادين.
لعل هذا قدر مبدعي العالم العربي، حيث يقفون في العراء، يعاندون كل ما حولهم، يعملون بدأب، ليحققوا إبداعاتهم محمولة على أكفّ أحلامهم وهمومهم. لا يأبهون بما ينتظرهم وراء هذا المنعطف، أو خلف تلك اللحظة.. فلقد واجه هادي ماهود الخطر أكثر من مرة، كان منها أنه خلال تصويره لفيلم «العراق موطني»، حدث تفجير سيارة مفخخة، فرأى في الحدث فرصة لا بد من تسجيلها، وتوثيقها، بتصويرها، الأمر الذي جعله يدفع ثمناً موجعاً، بتعرضه للضرب الموجع، من قبل رجال الشرطة، والاعتداء الواسع من قبل الناس المفجوعين بالانفجار، محطمين كاميرته، وتاركين الآثار الدامية على جسده..
الآن، ومع الجراح التي طالته، جراء الحادث، ينبغي أن لا نكتفي بالقول.. بل لا بد للمعنين من فعل كل ما يمكنهم.
«العراق موطني»

قبل سنوات، وعندما انطلقت رحلات إعادة العراق، بعد غيبة مديدة، كانت رحلة الاستكشاف الأهم، على المستوى الفني، والمضمون الفكري، تتجلّى في فيلم «العراق موطني» للمخرج هادي ماهود، وهو فيلم تسجيلي طويل (52 دقيقة)، يمتدّ تحقيقه على مدى أكثر من سنة ونصف، يبدأها الفيلم بخبر سقوط النظام، فما يكون من المخرج العراقي هادي ماهود، المقيم في أستراليا، منذ 13 عاماً، إلا التحضير للعودة إلى العراق، وهذه العودة سوف تنتهي إلى الفيلم الذي بين أيدينا.
سنعرف أن هادي ماهود ينتمي إلى مدينة السماوة، في الجنوب العراقي، ولهذا فإنه يمنح فيلمه عنواناً فرعياً هو «عودة المنفيّ إلى السماوة». العودة إلى السماوة هي العودة إلى الوطن العراقي، الذي افتقده هادي ماهود، والانتماء إلى السماوة هو الانتماء إلى الوطن، الذي حافظ عليه هادي ماهود، حتى في مغتربه الأسترالي. وبالتالي فإن الصورة التي سيرصدها هادي ماهود في السماوة، هي جزء من صورة الوطن ذاته.
يتميز فيلم «العراق موطني» بأنه يرصد، وبصورة تكاد تكون استثنائية، مدينة عراقية بعيدة عن مدينة بغداد، التي أخذت مركز الاهتمام من السينما العراقية المعاصرة، والأفلام التي أنتجت عن العراق، عربية أو أجنبية.
من أستراليا إلى السماوة تمتد الرحلة. وفي السماوة سيجد المخرج هادي ماهود العديد من الشخصيات الطريفة، التي تصلح لأن تكون مرتكزات درامية يقوم عليها فيلمه، أولها شخصية «مجيد» المجذوب الذي يكاد يصل إلى حدّ الجنون، والعاقل الذي يصل إلى حدّ أن يكون صوت الضمير. «مجيد» مجنون المدينة وحكيمها يتناول التفاصيل التي كانت في عهد صدام، بكل قسوتها ووجعها، كما يلتقط أطراف الفساد الراهن، بسبب الفوضى التي تعم المكان. أما الصبي «أحمد»، الفتى اليافع، والذي فقد مهنته كعامل بناء، بعد أن سُرقت معدات معمل الإسمنت، ليتحول إلى مهنة بيع الرصاص، يقود المخرج إلى تفاصيل المدينة وأسرارها، مثل: غرف تعذيب دائرة الأمن العامة، وسجون قطاعات التحالف في المدينة، التي لا يتوفر فيها أدنى حد من الخدمات.
سيتعرض الفيلم لموضوع السجناء العراقيين، وطبيعة الحياة في السماوة، والتفجيرات التي تستهدف دوريات الشرطة، والجنائز وطقوس التعزية الشيعية، والمدافن الجماعية، وعمل الجيش الياباني، وواقع البنية التحتية في المدينة، ومواقف المواطنين العراقيين السياسية، وشكل الحياة في هذه المدينة، ذات الطبيعة المحافظة.
فيلم «العراق موطني»، ينتهي إلى ما يشبه رسالة انتماء من قبل المخرج هادي ماهود، إذ نراه يرفض مغادرة العراق، مرة أخرى، ويقرر الانتماء النهائي للوطن، ويربط نفسه بزواج من فتاة عراقية، ليبقى إلى الأبد في وطنه، ويقطع علاقته مع المنفى. وفي هذا الإطار يرسم صورة جميلة ومشرقة لمستقبل العراق، بدءاً من النشيد العربي الشهير «موطني»، وصولاً إلى الكشف عن التحولات التي باتت مدينته تشهدها.
عن ماهود.. الخجول الهادئ

أما بصدد فيلمه «انهيار»، ومشاركته في مهرجان دبي السينمائي الدولي السادس 2009، فقد كتبت الزميلة نوالي العلي، في نشرة اليوم الثالث من المهرجان:
وأخيراً سنرى العراق بعيون عراقية، لا مزيد من المراسلين الأجانب لتناقل الأنباء. في فيلم «انهيار» للمخرج العراقي هادي ماهود، ستتغير زاوية النظر، بل ستنتقل كلها إلى الداخل. داخل كل شيء، داخل الإنسان العراقي، التركيبة العراقية، الأحلام والانهيارات والخسارات العراقية برمتها، والتي كان يعمل ماهود على توثيقها منذ العام 2003، في سبيل إخراج هذا الفيلم.
عاد ماهود إلى العراق بعد سقوط النظام، بعد فراق 13 عاماً. وفي رحلة الحنين التي يخوضها العائدون، اكتشف ماهود اختفاء البشر والأشياء والأماكن والأشجار، وتبدل المسارح والكليات والحياة، آنذاك أخرج العائد فيلماً بعنوان «العراق موطني»، من إنتاج التلفزيون الاسترالي، ثمّ عاد حقاً ليقيم في قريته السماوة، حتى يومنا هذا.
بدأت فكرة فيلم «انهيار» بعد تتبع مثابرة المثقف العراقي على الخروج من بغداد، «كان المثقفون يهربون قبل النظام، وظلّوا يهربون بعده». وكأن العراق بات شارعاً باتجاه واحد يفضي إلى المنفى. هنا تكمن حبكة هذا الفيلم الوثائقي، فمن خلال سفر ماهود وتنقله بين المهرجانات، تمكّن بكاميرته من التقاط تنفس المثقفين في الخارج وكذلك تنهداتهم وحنينهم. و«انهيار» عوالمهم متوالية وكأنها في سباق لتتابع الانهيارات. ومن لم يفرّ قبلاً سيفعل الآن، على الأقل هذا ما أكدته سنوات قضاها ماهود في مراقبة حركة المثقفين العراقيين.
بالإضافة إلى فيلمه «انهيار» يشارك ماهود في ورشة كتابة السيناريو في مهرجان دبي السينمائي الدولي السادس، «نحن مستعجلون دائماً نحو الكتابة»، هذه الورشة تعلّم التباطوء باتجاه النص، ورشة تفكيك النص وبناء قاعدة للمشاهد والحدوتة وتصورها بصرياً، ثم بناء النص عليها، وليس العكس. «تبيّن أن الكتابة هي الخطوة الأخيرة» يوضح ماهود.
ليست هذه هي المرة الأولى لماهود في دبي، ألم يحصل فيلمه «ليالي هبوط الغجر» في مهرجان الخليج الأول 2007، على تنويه خاص من لجنة التحكيم؟.. والآن يرى ماهود في مهرجان دبي السينمائي كرنفالاً ملوناً وجمعاً هائلاً من سينمائيي العالم، وهي فرصة ليست متوفرة بكثرة في هذه المنطقة من العالم.
يبدو ماهود خجولاً وهادئاً، إنها صفات أساسية لمراقبة العالم وتوثيقه، يتحرك ببطء ويتحقق من الأشياء، لا يفارقه «سلاحه» يقصد كاميرته. لذلك ستجد في مكتبته الوثائقية الخاصة، أفلاماً وأنصاف أفلام، وأرباع أفلام ومشاريع أفلام. لننتبه فهادي ماهود لديه مجموعة صغيرة من الوثائق الفلميّة التي حصل عليها بقوة السلاح، وننوه مرة أخرى إنها الكاميرا.

الخميس، 7 يناير 2010

الاحتفال بالغواية.. في التسعين


أن يعود غابريل غارسيا ماركيز، بعد عشر سنوات، من الصمت الروائي، لإصدار رواية جديدة، فذلك مما لا شك فيه أنه أمر سيحظى بالاهتمام العالمي، ليس فقط من قبل القرّاء بالإسبانية، أو اللغة البرتغالية، على اعتبار أن «الأقربون أولى بالمعروف»، بل كذلك من قبل القرّاء باللغة العربية، التي قُيِّض لها مترجم نشط ونابه، من طراز الأستاذ صالح علماني، الذي جعل من قرّاء اللغة العربية قادرين على الإطلاع، على آخر إصدارات الروائي غابريل غارسيا ماركيز، خلال قرابة شهر فقط، من إصدارها بلغتها الأم: (ذاكرة غانياتي الحزينات، إصدار دار المدى للثقافة، دمشق، 2005).
دائماً ستكون عودة ماركيز إلى حقل الرواية، عودة حميدة، ذات رائحة خاصة، ونكهة مميزة، إذ أن قمة الرواية العالمية تبقى في حالة شوق وتوق، إلى هذا الروائي المتميز، ونتاجاته البارعة، حتى وإن شاغلته الصحافة، أحياناً، أو انشغل بالمرض، حيناً.. فمن الغباء للمرء (العاقل) أن يكلّف نفسه عناء الحديث عن ألق الروائي ماركيز، وقامته الإبداعية العالية، ومكانته المرموقة!.. فذاك هو تماماً من نافل القول.
تأتي الرواية الجديدة لماركيز؛ رواية «ذاكرة غانياتي الحزينات»، لتتكشف عن الروائي البارع ذاته، ليس فقط لأنها رواية مفاجئة، ومدهشة، على الرغم من أنها رواية صغيرة الحجم، إذ أن عدد صفحاتها لا يتجاوز (103) صفحة من القطع المتوسط!.. بل لأنها ذات موضوع خاص، مكثف، وعلى قدر عالٍ من الجرأة والنباهة، والعمق في الرؤية، والطرافة في الموضوع.. وعلى القدر ذاته من التدفق اللغوي، في السبك والتراسل..
هل يكفي للقول إن الرواية تجري على لسان بطلها، بصيغة المتكلم، على مدى صفحات الرواية، ومقاطعها المتتالية، التي لا تتجاوز خمسة مقاطع مكثفة، بما يشبه الاعترافات الجريئة، لرجل تبدأ الرواية وهو يعتزم الاحتفال بعيد ميلاده التسعين، من خلال إهداء نفسه «ليلة حب مجنونة» مع فتاة عذراء!.. لنجد أنفسنا أمام رواية من طراز مغاير، مفاجئ، إن لم نقل صادم..
بطل الرواية، الذي بالكاد نعرف اسمه، لن يتوانى عن الاعترافات البالغة الجرأة، في مجال انغماسه بالغوايات الضالة، التي مارسها خلال عمره الطويل، فبدا أنه يقيس حياته بالغواني اللواتي عرفهن، حتى الخمسين من عمره، ومن ثم أصبح يقيس عمره بالعقود لا بالسنوات.. دون أن يُفلت احتفالاته بالغوايات تلك، أبداً..

سنعرف منذ البدء، أنه صحفي كاتب عمود أسبوعي، في واحدة من الصحف المحلية!.. وما بين رغبته بالاستقالة، من هذا العمل، بعد أن أمضى نصف قرن من «عبودية التجديف»، عبر هذا العمود الصحفي، وتأفّفه من تصرفات بعض الزملاء، أو الرؤساء، في الصحيفة، من جهة أولى، وسعيه للاتصال بعالم التحقّق والشهرة، التي تثبت له أن على قيد الحياة، وفي دائرة الفعل، من جهة ثانية، سنرى أن بطل الرواية لن يتوانى عن الاعتراف الخفيّ، بأن الحياة ستستمر، طالما هو قادر على الحب.
«العمر ليس ما نصل إليه، بل ما نحسّ به».. و«الشيخوخة لا يشعر بها المرء في داخله، ولكن الآخرين يرونها من الخارج».. وثمة الكثير من طراز هذه التعابير، مما يسوقه بطل الرواية، لنكتشف في النهاية أن انغماسه في الغوايات، إنما لأنه كان يفتقد الحب، ويريد تعويضه من خلال الجنس.. إنه يرى أن «الجنس هو العزاء الذي يلجأ إليه المرء عندما لا يحصل على الحب»..
سيؤثث الروائي ماركيز حياة بطله بالكثير من التفاصيل البارعة، والدالة على العميق من المعاني، ففي البيت الذي يعيش فيه وحده، ثمة الكثير من الأزهار، والورد، والكثير من الكتب.. كما تترع حياته بالموسيقى، من روائع الكلاسيكيات العالمية، حتى لو أعاد عزفها موسيقيون محليون.. وفي كل حال هناك الكثير من الذكريات عن الأب والأم، والأصدقاء والصديقات، والنساء الفاتنات اللواتي مضين..
دائماً يبرع الروائي ماركيز بالتفاصيل الغنية، والمعلومات الثرية، والمعرفة العميقة، التي يعبر عنها بالالتفاتة الذكية، والعين النابهة، والجمل الحاذقة، والطريفة.. وفي هذه الرواية ستبدو لياقته، في هذا المجال، على قدر من البراعة.. فحتى لو كان الحديث عن القط الذي جاءه هدية، أو عن الكتب التي يعيد قراءتها، أو الموسيقى التي ينصت إليها، أو الأماكن التي يمر بها، أو اللحظات المليئة بالنزق والوحشة المتوحدة، والقيظ المبلل بنزف العرق وروائحه الزنخة، سنرى الروائي يقدم ثروة من المعلومات، والمعارف المتواشجة مع البناء الروائي، والسرد الحكائي، دون أن تبدو نافرة أبداً..
وفي الوقت نفسه، يبدو تماماً، أن المرأة هي الهاجس المحور، في حياة بطل الرواية.. وأن كل التفاصيل التي يسوقها إنما تدور هذا المحور، حتى تكاد كل التفاصيل تغدو هامشية.. فالنساء اللواتي عرفهن طيلة حياته، هن الذاكرة التي يسترجعها، والنساء اللواتي يلتقيهن الآن هن استرجاعات لتلك الذاكرة، ذاتها؛ ذاكرة الغواية التي أزهق تسع عقود من الزمن، من عمره، منغمساً بها. النساء اللواتي يعود للالتقاء ببعضهن، ممن لم يلفظن أنفاسهن بعد، فلم يطويهن الموت، وبقين يحتفظن بأشكال من شباب تفاصيلهن الجميلة، التي تذكره بأيام الشباب.
هل كان ماركيز ينوي كتابة رواية على حافة الإباحية؟.. أم تراه كان يريد كتابة رواية حسية الطابع؟..

لقد نجا ماركيز برواية من كتابة رواية إباحية!.. نعم.. على الرغم من أن قسطاً هاماً، ومؤثراً، منها، يدور في غرفة في الماخور، وأمام جسد الفتاة العذراء النائمة (في تحية خاصة منه لرواية «بيت الجميلات النائمات» للروائي الياباني ياسوناري كاوباتا).. ولكن الحسّية بقيت طاغية في الرواية إلى حدّ لم يلجمها سوى قدرة الروائي، على الارتقاء بلغته (مهارة المترجم في اختيار آنق العبارات)، ووقوع بطل الرواية في الحب؛ حب الطفلة ذاتها، ابنه الخامسة عشرة من عمرها، التي جلبتها القوادة ليلة احتفاله بعيد ميلاده التسعين، وبرع في وصف كل مسام في جسدها، وكل نبرة إحساس، أو خلجة من خلجاتها، وفي الحب الذي آثر أن يحتفظ لقلبه أن يموت به، بعد أن يبلغ المئة.
رواية «ذكريات غانياتي النائمات».. أنشودة بارعة عن التشبث بالحياة إلى آخر الشهقات.. كتبها روائي لا يقل عمراً عن بطله.. روائي محاصر بالموت، ليس بسبب الكهولة وحدها، وإنما بالمرض الذي يترصده، فيما هو يقاومهما (الكهولة والمرض) بالكتابة، وبالقدرة على النفاذ إلى جوهر المعنى الإنساني للوجود.. فمن قال إن التسعين ليست ذروة شباب من وُلد في السبعين من عمره مثلاً؟.. بل من تراه قال إن الحب في التسعين مستحيل تماماً؟..
في التسعين!..
لن تكون الكتابة، عند غابريل غارسيا ماركيز، عن الموت، أو العزلة، أو الوحشة.. على الرغم من أنه قال عن نفسه إنه أكثر الناس وحشة وعزلة في العالم.. بل إنها رواية عن الحب.. عن النساء.. وعن الغانيات الجميلات، اللواتي ما ذبلن على عود الأيام..
وإذا ما قال أحد الروائيين العرب (عبد السلام العجيلي): «وأنا في العشرين، كنت أخشى السبعين، لأن الفتيات لن يعدن راغبات بي.. وعندما وصلت السبعين اكتشفت أنني لم أعد راغباً بهن»!.. فإن ماركيز يثبت أنه حتى في التسعين يمكن لك أن تعيش حالة غواية مجنونة، وقصة حب أكثر جنوناً.. وتهزأ من مقولة إن «إحدى مفاتن الشيخوخة، هي تلك الاستفزازات التي تسمح لأنفسهن بها الصديقات الشابات، اللواتي يعتقدن أننا خارج الخدمة»..
«خارج الخدمة»!.. تلك هي المقولة القاسية، حدّ الموت، لمن هو على قيد الحياة.. وأسألوا أهل الأربعين!..

الثلاثاء، 5 يناير 2010

المطلوب رجل واحد

الآن صار من الممكن للمرء الحديث عن سينما في دولة الإمارات العربية المتحدة.. قبل ذاك، كان من الممكن النقاش حول نثارات من الشعر والقصة والرواية، والفن التشكيلي والمسرح والغناء.. أما السينما فلا!.. نلتفت إلى الوراء، عشرين سنة فقط، فلا نكاد نعثر على فيلم سينمائي إماراتي واحد!.. واليوم صار من العصيّ على باحث، أو دارس، أو ناقد، أن يقوم بإحصاء الأفلام السينمائية الإماراتية، كافة، التي أُنجزت، وتُنجز الآن.. اليوم صار في الإمارات أفلام طويلة وقصيرة، روائية وووثائقية، تقليدية وحداثية، قوية وضعيفة، جيدة وسيئة، ممتعة ومنفرة.. صار حراكاً، وكان يبدو أن «المطلوب رجل واحد».. وكان هذا الرجل «مسعود أمر الله آل علي».
لا نريد النبش في سيرة الرجل، ولا في ما صنع، أو ما ينوي.. إنما نبغي التأكيد عابرين على حقيقة أنه لولا «مسابقة أفلام من الإمارات»، التي أسسها، وبلورها، وقادها بنجاح ست دورات متتالية، لكان من الصعب اليوم الحديث عن «أفلام في الإمارات»، وربما عموم الخليج العربي، فهذه المسابقة كان محفزاً حقيقياً لطاقات وجهود وإبداعات الشباب والشابات، في الإمارات بداية، وفي دول الخليج العربي ثانياً..
وآن انطفأت تلك المسابقة «الفقيدة»، توهَّجت شعلة «مهرجان دبي السينمائي»، وهو انتهى من دورته السادسة، قبل شهر بقليل، ليسلّم الراية إلى «مهرجان الخليج السينمائي»، الذي يتهيأ لدورته الثالثة، بعد أكثر من شهر أو شهرين بقليل.. وما بين هذا وذاك، تبدو صورة الإمارات السينمائية قيد التبلور، والنضج، بعد أن طوت مرحلة البدايات، بكل ما فيها من عثرات..
كان أمراً ملفتاً أن يتولّى مهرجان دبي السينمائي، في العام الماضي، إصدار قرص مضغوط (DVD) يضم نسخاً من ثمانية أفلام إماراتية، وأن يقوم بتوزيعه على ضيوف المهرجان، ومن ثم يقوم بدورته السادسة، هذا العام، بتوزيع قرص يحتوي أفلام خليجية،الإمر الذي يدلّ فيما يدلّ على رغبة المهرجان الجادة، وهو المهرجان الدولي، بإيصال الصوت السينمائي الإماراتي، كما الخليجي، إلى أوسع مدى، خاصة في فيض الحضور السينمائي الدولي المتميز، من أقصى آسيا شرقاً، إلى أقصى أمريكا غرباً، مروراً بأوروبا وأفريقيا، شمالاً وجنوباً..

مسعود أمر الله آل علي يسلّم نوّاف الجناحي جائزة أحسن مخرج إماراتي للعام 2009

دائماً، سيبدو سؤال السينما الإماراتية، يذهب في اتجاهين اثنين: أولهما ذاك الذي يتعلق بالمُنجز السينمائي ذاته، من حيث الكمّ والنوع، والآليات والسياقات التي يمكن أن تؤدي/ أو لا تؤدي، إلى نشوء صناعة سينمائية حقيقية، وفق المتعارف عليه عالمياً. وثانيهما ما يتعلق بصورة الإماراتي نفسه، ومن ثم صورة الخليجي عموماً. تلك الصورة التي يقوم بصناعتها السينمائي الإماراتي/ الخليجي، بنفسه، ويشكلها على النحو الذي يريد، بعيداً عن الصورة النمطية المتكونة في الثقافة العربية، أو الثقافية العالمية، عن الإماراتي/ الخليجي.
وفي وقت يتعلق المُنجز السينمائي المُتحقِّق، أو المأمول، بالعديد من الشروط والضوابط والامكانيات، والمعيقات.. ويستدعي الوقوف أمام الحالة السينمائية في موشورها المتعدد الوجوه، بين كونها فناً، وصناعة، وتجارة، وعمل جماعي، يمكن للقطاع الخاص، من شركات ومؤسسات وبنوك، وغيرها.. كما يمكن للقطاعات الحكومية، من وزارات ومؤسسات وهيئات.. المساهمة فيها، ودعمها، وتقويتها.. فإن الحديث عن الصورة السينمائية يتطلب مشاهدة متمعنة، وقراءة متأنية، للنصوص السينمائية/ الأفلام، بما فيها، ومن داخلها، مع الاستعانة بما توصلت إليه علوم السياسة والاقتصاد، وعلم النفس والاجتماع، والثقافة، وعلوم الدلالات..
نشير، عابرين، إلى حقيقة توفّر الإمكانيات المادية والبشرية، في الإمارات العربية المتحدة، بداية، وفي دول الخليج العربي، عموماً.. ولكن هذه الإمكانيات المادية الكبيرة لم تُوجَّه، حتى الآن، كما ينبغي، للمساهمة في قطاع السينما، الذي ما زال يقوم في غالبيته على جهود فردية، أو مؤسساتية صغيرة.. وهو أمر غريب حقاً، إزاء تجارب عالمية، حتى في العالم الثالث، بيَّنت أن السينما يمكن أن تكون صناعة ثقيلة، وثروة وطنية.. بل إن ثمة من الأفكار الخلاقة التي يمكن أن تقوم بتسمين السينما، وبلورة صناعتها، باستقطاع القليل جداً من العائدات الهائلة جداً، التي تدرها العروض السينمائية في الإمارات، ودول الخليج..
لنتخيل أن فيلماً مثل «Spider Man 3» حقق عوائد تفوق 8 مليون دولار أمريكي، في صالات الإمارات وحدها، مما يعني أن عدد الجمهور الذي حضره فاق 281 ألف شخص، اشتروا العدد الموازي من البطاقات..
«ماذا لو أخذنا من كل بطاقة، درهماً إماراتياً واحداً، ووظَّفناه في صناعة سينما إماراتية؟».. يقول مسعود أمر الله آل علي.. هذا مشروع قدمناه للجهات المختصة.
والمصادر ذات العلاقة، تقول إن عدد البطاقات التي بيعت في الإمارات خلال العام 2007 فقط، ولأفضل عشرة أفلام فقط، يتجاوز 2 مليون بطاقة!.. وهذا يعني أن 2 مليون درهماً إماراتياً، فقط، يمكن أن تنصبّ في صندوق السينما الإماراتية سنوياً، ومن باب عرض عشرة أفلام، فقط.. وهذه المبالغ وحدها، وسنة بعد سنة، يمكن أن تؤسس لصناعة سينما إماراتية حقيقية، وراسخة.. فمن تراه سيأخذ مسعود أمر الله على محمل الجد؟!.. ومتى؟

ويسلّم محمد حسن أحمد جائزة أحسن موهبة/ سيناريست إماراتي للعام 2009

رضوان الكاشف.. أي خسارة أنت؟!..


هكذا هم الطيبون..
يرحلون بسرعة وبصمت.. كأنما هم يخجلون من ضجيج رحيلهم.. ويعتذرون عما سيخلِّفونه من أسى ومرارة في نفوسنا.. ومن ندى رائق سيبلل مآقي العيون..
رضوان الكاشف..
أيها الفتى الصعيدي النحيل.. يا الرجل الطيب المتدفِّق حلاوة، وطيبة نفس.. يا النشوة التي لا يستطيعها حتى عرق البلح ..
هل أرتِّلُك بالأفلام؟.. أم باللحظات الأنيقة؟.. أم بالوداعة الناضحة من ملامحك، ومن كل لفتة طفولية تنزفها، وأنت تدرك أنك تنزف آخر ساعات العمر؟..
«قلبي متعب».. هكذا قال لي.. ومضى بين فيلمين.. بل بين حلمين.. وبنفسجة كئيبة..
«ومن منا ليس له قلب متعب.. يا صديق؟..».. قلت له.. أنا الفاشل أبداً.. إلا بإبداء فضيحة ارتباكي..
ورضوان.. هو رضوان.. الممتلئ توقاً إلى مزيد من الوقت.. ريثما ينجز حلماً آخر.. ريثما يقول كلمة أخرى.. ويبني صورة أخرى..
تضاحكنا.. وتمازحنا..
«هل تنازلت عن حلم؟..».. قلت بعد أن شاهدت فيلمه «الساحر».. فزجرني بنظرة لائمة معاتبة وقال: «أنا حلمي.. فهل أتنازل عن أنا؟.. هذا أنا.. أولئك الهامشيون الحالمون.. وربما العابثون بألم وقهر..»
انثال الحزن من عينيه هاطلاً.. عندما سألته عن المخرج حسام علي..
(من يعرف حسام علي؟.. من تراه يتلمس نبض أحلامه.. وحزنه اللا منتهي؟.. من يسألني عن حسام هنا بعيداً آلاف الكيلومترات عن شقتينا المتقابلتين.. وحلمينا المتوازيين؟..)
لم يقل رضوان هذا.. لكنه فكر به قبل أن يسألني: «تعرف حسام؟..».
قلت له: «لم أعرفه شخصياً.. ولكنني عرفت حلمه.. تلمست حرارة الشمس على وجنتيه..»..
ضبطت رضوان الكاشف يرتدي من محل للألبسة في الصالحية.. ليس بعيداً عن صالة الزهراء.. فقلت له: «أيها الشاري الفاشل.. انتظر حتى تنال جائزة أفضل فيلم عربي.. واشتر ما شئت بها من متاعك الدمشقي».. قال لي: «لا أريد أن أفسد لحظاتي في دمشق.. الجائزة عندي اعتبار.. أو محض تحية.. قليل من المال ربما يكفي للثمين مما أناله من تجار دمشقيين»..
«أشاري ولا أشتري.. يبايعون ولا يبيعون..». قلت.. ضحك، وقال: «أي ذائقة كلام لديك؟..»
وها أنا بين يدي رحيلك يا رضوان.. أكاذب اللغة.. وأحاول إغواءها..
رحيلك أقسى من الكلمات.. وأمرّ من أن يقال..
رحيل مرّ..
«عندما أردت أن أعرض الساحر كانت دمشق اتجاهي».. قال.
قلت: «أهو إغواء المدن النافرة؟..».
«دمشق نافرة بحب.. وجمهورها متطلِّب بحب..». قال.
قلت: «أهو الحب؟..»
بإغماضة كاملة من العينين البارقتين بذكاء.. قال: «نعم.. إنه الحب»..
«نحن نحبك.. تخيل أي رجل أنت حتى تحبك دمشق على أبنائها..».
فتح عينيه على مدى اتساع يقدر عليه لحظتذاك.. وقال: «بشار.. ملامحك ملامح رجل صعيدي»..
قلت: «لعل جدي الأعلى فلاح جاء في جيش إبراهيم باشا من صعيد مصر إلى غور فلسطين.. أنا غوراني.. هل تعرف ماذا يعني أن تكون غوراني؟..»..
هوى بكفه في الهواء بيننا.. وقال: «تعب.. ولا بد لي أن أنام.. سأنام..»
قال رضوان الكاشف ذلك.. ومضى على الطريق الرخامي إلى غرفته في فندق الشام.. ونام..
كان قد صار بين أوراقي عنوانه: (35 ش شمبليون، شقة 35، 5745762، المنزل: 6 ش أبو عجيلة، مدينة نصر. هاتف: 2601812، فاكس: 4186268)..
الآن..
قد أزور القاهرة.. وقد أتصل بالهاتف.. وقد أرسل له تحية الصباح عبر الفاكس..
لكن رضوان الكاشف لن يرد..
هس.. س.. س.. رضوان الكاشف.. نائم.

أحمد زكي.. رجل من لوننا


لم يكن موت أحمد زكي مفاجئاً، بل هو من طراز الموت الذي ضرب موعداً مع صاحبه، منذ سنة على الأقل، ومع ذلك كان موتاً فاجعاً..
فما بين لحظة إعلان الموعد، المحمول على أكفّ المرض العضال، ولحظة الانطفاء الأخيرة، كان ثمّة الكثير من الأمل في تبديل المواعيد، أو تأخيرها، أو التحايل عليها، ما أمكن ذلك!..
وفي تلك المسافة، كانت محاولات الفنان الكبير في مقاومة المرض، مسلَّحاً بحبّ الناس، وعواطفهم، وكف أدعيتهم الناهض إلى السماء..
وفي تلك المسافة، أيضاً، كانت المحاولة الإبداعية الأخيرة، من خلال العودة (متعبّداً) إلى محراب الكاميرا السينمائية، لتصوير فيلم «حليم»..
رحل أحمد زكي. تماماً، كأنما رتَّب أشياءه، وحزم أمتعته، ورمى تلويحة الغياب، هناك عند منعطف الموت، ومضى!..
ولم يكن مفاجئاً أن نكتشف، لحظة غيابه، تماماً، أنه ترك فينا الكثير!..
دائماً، كان أحمد زكي «رجلاً من لوننا». فيه الكثير من نبض أحلامنا، من وجعنا، والكثير من الكلام الواقف على حافة اللسان، خائفاً ومرعوباً من أن يُقال، وأكثر خوفاً ورعباً من أن يظل مسكوتاً عنه..
من تراه لم ينتبه إلى نبرة الحزن العميق، الساكنة في عينيه، وفي رفّة الرمش القلقة؟!..
من فقر، وقهر، وتعب، جاء.. ليرجّ الساكن في السينما العربية، وليعيدها من انزياحها إلى حيث يجب أن يكون..
لم يغيِّر أحمد زكي من نمطية البطل في السينما العربية، فقط، بل لعله ارتقى بالإنسان العادي إلى مصاف البطولة، وهذا مجده..
مجده أنه كان واحداً من هؤلاء الناس المرميين على قارعة رصيف الصمت والإهمال والتعاسة، فانتقل بهم إلى بؤرة عين العدسة، ليكشف عن إنسانيتهم الطافحة..
في موت الرجل الذي من لوننا، ستبهت ألوان كثيرة. وسيبقى الحزن مقيماً، حتى إشعار آخر.

إياد الداود في دارفور


بعد ثلاث سنوات على إنجازه ثلاثيته الوثائقية المتميزة؛ «في ضيافة البندقية»، لصالح قناة الجزيرة، 2006، والتي قام بتحقيقها في قطاع غزة، حيث دخل معاقل كتائب «القسام»، و«شهداء الأقصى»، و«سرايا القدس»، فالتقى أبرز قادتها ومناضليها، وألقى الضوء على جوانب من هذا العالم السريّ.. انتهى المخرج إياد الداود من تصوير عمله الوثائقي الجديد عن دارفور، والذي أمضى من أجله قرابة أسبوعين، متجولاً بكاميرته في العديد من مناطق دارفور، في المدن والقرى ومعسكرات اللاجئين..
ومن المنتظر أن تكون عودة المخرج إياد الداوود لعالم صناعة الوثائقي، مميزة، اتكاءً على خبرته العميقة في هذا المجال، وهو الذي يحتفظ في سجله بعناوين بارزة في الوثائقيات، بدأها بفيلمه الأشهر «القدس وعد السماء» 1997، ومن ثم «دير ياسين.. الوجع» 1999، «مآذن في وجه الدمار» 1999، «عودة» 2000، «أعراس الزهور» 2001، «جنين» 2002، «فن الحياة» 2003، وثلاثية «في ضيافة البندقية» 2006، وهي الأفلام التي بادر العديد من الفضائيات العربية لبثها، وإعادة بثها، في مناسبات وطنية وقومية مختلفة.
وكان أن فاز بالعديد من الجوائز، نذكر منها: الجائزة الفضية عن الأفلام التسجيلية في مهرجان القاهرة السادس للإذاعة والتلفزيون، عام 2000. والجائزة الفضية في مهرجان القاهرة السابع للإذاعة والتلفزيون، عام 2001، عن فيلم «عودة». وجائزة الجمهور في مهرجان مطر الصحراء في إيطاليا، عام 2001. ودرع المهرجان الدولي الأول للإنتاجات التلفزيونية في طهران عام 2002، عن فيلم «دير ياسين.. الوجع». ودرع المهرجان الدولي الأول للإنتاجات التلفزيونية في طهران عام 2002، عن فيلم «دير ياسين.. الوجع»، إضافة إلى دبلوم تقدير فخرية عن الإخراج المتميز. ودرع منظمة المؤتمر الإسلامي، عام 2002.
وبانتقال المخرج إياد الداوود لتناول موضوع ساخن، في دارفور، وبعيداً عن القضية الفلسطينية، هاجسه ومشروعه الحياتي والفني، فإنه يثبت حرصه على البقاء في دائرة المواضيع الأكثر حساسية واتصالاً بمصير الأمة ومستقبلها، وانحيازه إلى المظلومين والمقهورين الساعين إلى عالم أكثر عدالة وأمناً وسلاماً.. كما يؤكد، من جهة أخرى، وفاءه للوثائقي صناعةً وتحقيقاً، وتتويجاً لعمله في تدريب كوادر جديدة قادمة على دروب صناعة الوثائقي في العالم العربي..
مع دارفور، هذه المرة، وكما فعل من قبل في فلسطينياته الوثائقية، لعلنا سنكون أمام حالة كشف واكتشاف جديدين، لعالم سرّي، ولمأساة، يلفها الكثير من الغموض والالتباس، وتكاد تذوب معالمها في فيض الحديث السياسي، وتنابذاته المتصلة بمصالح قوى، كبرى حيناً، وخفية في أحيان أخرى.. فالتساؤل والبحث والتنقيب والكشف هي من أهم أدوات الوثائقي، وأسمى غاياته.

قبلتان على اسم برهان علوية


يحضر اسم «برهان علوية»، فتلتمع العينان، وتبرقان، بألق الحضور، وتألق الذاكرة، فهذا المبدع الكبير، وفي الوقت الذي يشكّل أحد الأعمدة التي نهضت بالسينما اللبنانية الحقيقية، منذ مطالع السبعينيات، وما كفّ عن المحاولات الجادة، في هذا السياق، حتى اللحظة (أمدَّ الله بعمره)، إيماناً منه بأن «صنع سينما لبنانية جادة، هو مساهمة في رسم الهوية اللبنانية، وتأصيلها».. هو المبدع ذاته، الذي أهدى السينما العربية، ذات يوم، أحد أهم أفلامها، ووضع اسم فيلمه، بتوقيعه، في قائمة الشرف..
من هنا، فإن «مهرجان الفيلم الدولي للأفلام الوثائقية» يكرِّم نفسه، إذ يبادر إلى تكريم المخرج «برهان علوية».. فمثل هذه القامات العالية، المبدعة في مجالها، تستطيع أن تمنح كل من يقترب منها شيئاً من عطرها.. كما إن تكريماً من هذا الطراز، إنما هو تكريم للسينما اللبنانية كلها، من خلال أحد أبرز رموزها أصالة ودأباً، وأبرز صانعيها، وثائقياً وروائياً، وهو تكريم لأجيال من السينمائيين اللبنانيين الكبار، الباحثين، طيلة العمر، عمن يحتضنهم وسينماهم، بشكل فعلي وعملي، مادياً ومعنوياً، على السواء.
لا ترتبك الكلمات بين يدي برهان علوية، فمن أتقن أمتلاك صناعة الصورة يعرف تماماً كيف يرسل الكلمة إلى موقعها الصحيح، ويمنحها معناها الدقيق.. هل ثمة من يجادل في افتقاد الحميمية المنشودة، والتي لا بد من العمل الحثيث على استعادتها اليوم، ولو بالاستعارة من تلك الأيام؛ أيام الأحلام الكبرى، والمشاريع الكبرى، وربما الخيبات الكبرى؟!..
نحتاج إلى صفحات، لا تقلّ عن كتاب، للتأمل في عالم برهان علوية السينمائي، وقراءة تجربته الإبداعية، في سياقها. وحسبنا هنا، ونحن موقع تكريمه، أن نتوقف عند أحد أهم افلامه..
فيلم «كفر قاسم».. فاتحة للمدى..


كان ذاك في العام 1974، عندما أخرج برهان علوية إلى النور فيلم «كفر قاسم»، نتاج تعاون مثمر، واستثنائي، لم يتكرر أبداً، فيما بين المؤسسة العامة للسينما في سوريا، ومؤسسة السينما الللبنانية، وبدعم من بلجيكا، ومساهمة طواقم فنية فرنسية.. فيلم يستند على حادثة واقعية، صاغها عاصم الجندي قصة، وبنى الحوار لها عصام محفوض، فيما كان السيناريو للمخرج برهان علوية، نفسه، فجاء فيلماً على غاية من الأهمية والبراعة..
فيلم «كفر قاسم»، اليوم، وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاث عقود من الزمن، على إنتاجه، لا زال فيلماً رفيعاً شكلاً ومضموناً، قوياً خطاباً وبناء، إذ استطاع برهان علوية، بموهبته الفائقة، أن ينسج فيلماً، متجدداً على الدوام.. فيلماً، وعلى الرغم من أنه روائي، إلاّ أنه يصل إلى مصاف الوثيقة السينمائية، التي تكشف حقيقة العدو الصهيوني، وواقع الفلسطينيين والعرب، وجذر القضية الفلسطينية.. فمنذ المشهد الافتتاحي للفيلم، وحتى لقطة النهاية، ينتظم هذا العمل سلساً متقناً، بالمشهد والصورة والحوار، بالغناء والموسيقى، ليعيد بناء وقراءة مرحلة تاريخية محددة من عمر المنطقة كلها..
يكتب برهان علوية سيناريو الفيلم، وهو يريد الحديث عن المجزرة الدامية التي ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني، في قرية «كفر قاسم» الفلسطينية، عشية العدوان الثلاثي. هو العام 1956، و«جمال عبد الناصر» يستطيع أن يجعل أبناء الشعب العربي، من المحيط إلى الخليج، ينصتون إلى كل كلمة يقولها، في خطاباته الشهيرة، وهانحن عند واحد من أهمها، إذ سيعلن في خطاب تاريخي قرار تأميم شركة «قناة السويس العالمية» شركة مصرية مساهمة!.. فتلتهب المشاعر، وتجيش في وجدان الناس، التي طالما رأت في عبد الناصر صوتها، أو صورتها.. الناس التي علَّقت حلمها به.. فكان العدوان والمجزرة، محاولة لكسر الحلم..
من المؤكد أن اختيار برهان علوية لمشروعه السينمائي، في هذا الفيلم، كان خياراً واعياً، وجريئاً، على المستوى الفكري، كما كان تحدياً، ومغامرة، على المستوى الفني، ففي ذاك الوقت (عام 1974)، كان الإقدام على مثل هذه التجربة، يشبه السير على نصل السكين، أو على حافة الشفرة!.. يومها، كان المخرج المصري الكبير توفيق صالح، قد نجح في تحقيق فيلمه «المخدوعون»، المأخوذ عام 1972، عن رواية «رجال في الشمس»، للأديب الشهيد غسان كنفاني، ونال الجائزة الذهبية من مهرجان قرطاج عام 1972، فيما فشل كثيرون من المخرجين العرب، وأخفقوا في صياغة فيلم يتناول الشأن الفلسطيني، بجدية فكرية، ومستوى فني لائق.. فصار من المعتاد أن يتحرَّج البعض من الاقتراب من هذا الحقل الشائك..
كان على برهان علوية، قبل كل هذا، أن يجتاز العديد من العوائق، والصعوبات الإدارية، والمشكلات المادية، أن يتنقل هنا وهناك، من عاصمة إلى أخرى، عربية وأجنبية، وكان عليه أن ينقل سرّ إيمانه بهذا العمل إلى المعنيين بالأمر، ممن سيشكلون الجهات الانتاجية، والطواقم الفنية، فتمنحه الثقة، وتنضم للعمل معه، وتحت إدارته، وهو المخرج الشاب، يومها..
و«كفر قاسم» في واقعها، وكما نراها في الفيلم، وقد لعبت دورها قرية «الشيخ سعد» في ريف طرطوس، هي نموذج لواقع فلسطيني وعربي، إذ تحفل بكل مفردات التيارات السياسية، والحزبية، وتترع بناسها على اختلاف مشاربهم وألوانهم، من مناضلين ووطنيين، ومن انتهازيين، وعابثين، ولا مبالين، ومن عملاء ومتعاونين، أيضاً.. إنها فيض من تفاصيل حياتية، ومعاناة يومية، ومواقف متضاربة، بدءاً من معاناة العمال والعاملات العرب، اليومية، واستغلال سمار العمال لهم، وسرقة جهدهم بعد سرقة أراضيهم، وصولاً إلى لعبة العربي المشنوق في تل أبيب، والسؤالات الحائرة عن المصير المجهول، الذي يترقّب الجميع!..
كانت «كفر قاسم» قرية تتشبث بكل خيوط البقاء، والحياة والصمود والاستمرار، بينما المحتل الصهيوني الغادر يحضّر آلته العسكرية لارتكاب مجزرة بشعة بحق الفلسطينيين العزّل، وستجري محاكمات تافهة، يظهر فيها الصهيوني قاتلاً بدم بارد، والفلسطيني ضحية بلا ثمن، في جريمة مدبَّرة، لن تزيد غرامتها عن الشيكل الواحد!..
ذاك المساء أعلن المنادي عن فرض حظر التجول، وكان العمال من أبناء القرية لا يزالون طيّ أعمالهم، في المزارع والحقول النائية عن قريتهم، وإذ أخذوا يلملمون أنفسهم على عجل، ويشقون طريق العودة إلى بيوتهم، راجلين، أو على دراجاتهم الهوائية، أو الشاحنات المتهالكة، كان الجنود قد أعدّوا العدة؛ جهزوا رصاصهم، وقطعوا الطريق، وبدأ القتل الذي لم يفرق بين كبير أو صغير، رجل أو امرأة.. والفيلم سينشئ وثيقته البصرية بنفسه، كما سيسجّل قوائم أسماء من نالتهم المجزرة.. ويكون الشاهد الحقيقي على أهمية الفيلم السينمائي، في تناول «الحقيقة الواقعية»، وإعادة إنتاجها على هيئة «حقيقة سينمائية»..
فيلم «كفر قاسم» للمخرج برهان علوية، فيلم دقيق ومتوازن، وعلامة بارزة في تاريخ السينما العربية، ولم يكن حصوله على الجائزة الذهبية في مهرجان قرطاج 1974، ودبلوم شرف في مهرجان موسكو 1975، وجائزة منظمة التحرير في قرطاج 1974، ومهرجان السينما العربية باريس 1977، إلا بطاقات شكر وتحية..
فيلم واحد، كان يكفي للكشف عن حقيقة الموهبة الهامة، التي يتملكها المخرج برهان علوية.. ونجاح مميز من هذا الطراز، كان ينبغي أن يفتح الدرب أمام هذا المخرج الكبير، وتتاح له الفرص المتتالية!.. ولكن لا المخرج برهان علوية اكتفى بفيلم واحد، ولا الدرب فُرشت أمامه بالورود، بل كانت مسيرة من العطاء، تمازج فيها التعب والجهد، بالمستوى الفني العالي، الذي يكتب اليوم اسم برهان علوية متألقاً، على الرغم من انكسارات الحلم..
قبلتان.. على اسم برهان علوية
«أمانة».. وكان «أبو عبدو سالم»/ مدير إنتاج فيلم «كفر قاسم»، يحاول بكل اجتراحات اللغة، أن يتأكّد من إيصال القليل من مشاعره، بالقبلات، إلى «حبيب القلب»/«برهان علوية»..
«أبو عبدو سالم»، الذي ينغمس اليوم في مشاعر الوحدة، والالم، والاغتراب، في دمشق، يؤمن بأن صلة القلب بالقلب، وامتزاج الذاكرة بالذاكرة، والحلم بالحلم، لن تنقطع!..
وفي فيض كلمات الحب والتقدير، وفي تألّق الذاكرة، يبقى «برهان علوية» يطلّ عالياً.. تماماً كما جبال لبنان..