الثلاثاء، 5 يناير 2010

المخيم في متاهته


الوقت: عام 2067
المكان: مخيم شاتيلا
هكذا تماماً.. وهنا.. سوف يعلو النشيد..
أصوات ضاجّة في خواء المكان، حيث الزواريب التي بالكاد تسمح لمرور جسد بشري تآلف، على رغم منه، مع كلِّ هذا الضيق والعزلة.. كأنما هو النشيد الذي يحمل الفلسطيني على جناح أحلامه التي لم تنقطع بالتخلُّص من قيد المخيم وضيقه، والعودة إلى وطنه برحابته.. الأمل بأن تصبح أمكنة المخيمات حدائق عامة، أو ساحات نصب تذكارية، بعد أن لملم اللاجئون الفلسطينيون انتظاراتهم وذهبوا إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم..
يبهت النشيد.. فمخيم شاتيلا، بعد مرور مائة عام على النكسة، لا زال جاثماً في مكانه، بالتفاصيل ذاتها.. ربما في الأمر ما يثير القشعريرة في الأبدان.. فماذا يفعل المخيم هنا؟.. هل يمكن لمخيلة أن تتصوّر بقاء المخيم حتى تلك اللحظة؟.. أين تذهب النضالات والتضحيات والمقاومات؟..
في مشهد من فيلم (حيفا) الذي صوَّره عام 1996 المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، في مخيم (عقبة جبر) قرب مدينة أريحا، فيما الحكاية تدور في مخيم (الشاطئ) قرب غزة، يقول الفتى زياد مخاطباً أبيه:
(يابا.. بتعرف اللي ساكن بمخيم لاجئين، بعد ما يعملوا حلّ، إيش راح يعطوه؟.. مخيم لاجئين!.. صدّقني السلام هذا اللي بيحكوا عنه، هذا ما بصيرش هون.. هذا بيصير هناك، في واشنطن ومدريد، وأبصر وين.. بس هون ما راح يتغيّر شي!..)
جملة صادمة، ومقايضة مفزعة حقاً!..
ثمة مخيم سيبقى للاجئين، بعد مائة عام من النكسة.. وهنا هو مخيم شاتيلا ذاته، الذي مازال ينز دماً متصّدراً في (مونديال الدم الفلسطيني) كما قال فجر يعقوب ذات فيلم.. وستحاول مخيمات أخرى مباراته في نزف الدم، كما في الدمار..
ولكن أيُّ مخيم هو ذاك الذي يمكن أن نراه في العام (2067)؟.. أهو نتاج اتفاقيات السلام.. (سلام الشجعان).. تلك التي نعرف من أين تبدأ، دون أن نعرف إلى أين يمكن أن تنتهي؟!.. أم هو نتاج استمرار الأوضاع على ما هي عليه.. (ما راح يتغير شي)؟.. بل ترى أيُّ بشر أولئك الذين يستطيعون البقاء للعيش في المخيم، بعد مائة عام من النكسة، ويحلمون؟..
لا يأبه المخرج الفلسطيني فجر يعقوب لمحاولة الإجابة على ذلك!.. بل إنه التزاماً بمقولة (البلاغة في الإيجاز)، وهي صحيحة كما في الأدب كذلك في السينما، يقدّم فيلمه القصير الجديد، بعنوان (متاهة) ليفجعنا مرتين: مرة أولى إذ نكتشف من خلال (كاميرته) أن المخيم ما زال موجوداً، بعد مائة عام من النكسة (تماماً في العام 2067).. ومرة ثانية عندما نتلمّس التفاصيل ذاتها، من خلال اللقطات البانورامية الواسعة، التي تمسح ظاهر المخيم، ليبدو كتلة من الأبنية المتداعية المتراكبة على بعضها البعض، كأنما هي في اتكاءات التعب، وقد ملَّت من الانتظار الطويل.. على حافة من الحصار والقتل، والبطالة المعلنة.. الكثير من الازدحام، بالأجساد والجثث والأطراف الصناعية، وأكوام النفايات..
ينتمي فيلم (متاهة) إلى شكل تجريبي، على صعيد الفكرة والموضوع، كما على صعيد الشكل الفني والبناء.. الأبنية المتهدمة، والجدران المتهالكة، والممزقة، تلك التي تبدو كأنها خرجت لتوِّها من أتون حرب دامية، اقتلعت الأبواب من إطاراتها، وصنعت من الفتحات التي كان من المفترض أن تكون أبواباً ونوافذ، طاقات مفتوحة على العراء، وأضافت إليها طاقات أخرى، في الأسقف والجدران..
المخيم يبدو أقرب إلى الخراب منه إلى العمران..

ولكن المخرج فجر يعقوب لا يريد رصد صورة المخيم على حالته تلك؛ ليس تسجيلها ولا توثيقها. إنه لا يعقد العزم على صنع فيلم تسجيلي وثائقي عن مخيم نستطيع القول بثقة إنه أخذ الكثير من عناية الصور والشهادات السينمائية التي صنعها مخرجون سينمائيون فلسطينيون وعرب وأجانب، سواء بسبب حضور ذاك المخيم، أو فظاعة مجزرته!.. بل هو يسعى إلى حكاية أخرى، تعتمد أسلوب (الدوكيودراما) في السرد، وجملة من العلامات والإشارات في البناء، ومن هنا تتبدَّى محاولة المخرج فجر يعقوب في اعتماد منهج التجريب في فيلمه هذا..
يبدأ الفيلم بلقطة للبناية الشهيرة ذات الطوابق العليا المتهدمة، في حين احتفظت أساساتها وطوابقها الأدنى بالقليل من قدرتها على الصمود والتماسك والوقوف، ثم يطلّ علينا في اللقطة التالية فتى فلسطيني أسمر الملامح، ينظر إلينا عبر طاقة أحدثتها قذيفة ما في جدار.. ويأخذنا من ثم معه، بعد إطلالة عامة على المخيم، في جولة عبر تفاصيله الداخلية من زواريب ضيقة، وجدران مقشَّرة لم تتخلّ عن الكثير من الكتابات والخربشات، وأنابيب مياه تتلوّى على سطح الأرض، بين الأرجل التي تدور في حلقة المكان ولا تكاد تخرج منه..
منذ اللقطة الأولى يبدو أن الاعتماد على الصوت لا يقلّ أهمية عن الصورة، إذ يضجّ المكان على رغم خوائه بنشيد الفرح، وعمّا قليل سوف يتباطأ الصوت، ويسيل ممطوطاً بطريقة سوريالية، تتصاعد إلى درجة تشدّ معها الصورة ذاتها لتتباطأ بإيقاع مواز لها، كما سنرى شريط الكاسيت وقد أضحى بيد الفتى إلى (كرّارة) ينسل منها حزاماً طويلاً لا نهاية له، يكاد يلفّ المخيم بكل تفاصيله، قبل أن يلتفّ على جسد الفتى الفلسطيني ذاته..
الصوت في الفيلم هو العلامة الأبرز، بل هو الحامل الدرامي للحكاية برمتها.. والمخرج الذي اختار مقطعاً من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، فإنما في إشارة إلى غربة الكلام عن المكان، أو عن تلك القطيعة بين واقع الحال، وحال الكلام!..
هل نعيش تلك (المتاهة) لأن العرب (ظاهرة صوتية)، لا يملّون من الحكي الذي يكاد لا ينتهي، والذي يتحوّل عندهم إلى أسلوب حياة، تماماً بعد أن يغدو بلا معنى؟.. أم أننا نعيش تلك (المتاهة) بعد مائة عام من النكسة، لأننا ننوء تحت وطء تلك الشعارات العظيمة، والعبارات الرنانة، والوعودات الخارقة، التي بقيت منذ، النكبة على الأقل، كلاماً معلقاً في الهواء؟..
ربما هذا ما يريد يعقوب قوله في أربع دقائق هي مدة الفيلم، وهو كثير وعظيم ومفجع.. وقد يكون همّه الكشف عن حقيقة بياناتنا اللغوية الفارغة، التي احترفت تحويل الهزائم إلى انتصارات، وامتهنت إطلاق الشعارات والقعود عن تحقيقها..
في انتظار صلاح الدين، النكسة تجدِّد حضورها.. كأنما هي تتأنّق للاحتفال بنا كل عام.. والعرب يحتفلون بنكستهم، كما بإصرارهم منذ مائة عام على (إزالة آثار العدوان)..
ولكن من تراه ينتبه إلى مسلسل العدوان الذي يجري أمام أعيننا (على طريقة المسلسلات المكسيكية)، ويتسرّب من بين أيدينا، ونحن نطارد (آثار العدوان) مرة أخرى، ومن جديد؟.. في فلسطين أو في العراق، في (خُبر) السعودية، أو في (مزّة) سورية!.. وفي الكثير من الدول العربية الواقفة على حافة الخطر، مرصودة بالانفجار أو بالانهيار!..
الآن، عند منتصف الطريق إلى المائة عام من النكسة، كان من الممكن أن يكون الزعيم جمال عبد الناصر شاباً في أوساط الثمانينات من عمره.. ليس صعباً عليه حينها أن يتوكأ على عكازة المؤرخ نقولا زيادة، أو الروائي نجيب محفوظ، أو يستند إلى كتف الشيخ زايد.. بل كان من الممكن له أن يشدّ قوس ظهره، ويمدّ بصره ليرى (آثار العدوان) متناثرة في كل مكان من دنيا العرب، وتتناسل في رفح وجنين، وبغداد والفلوجة والقائم، وفي عتبات النجف وكربلاء. وكان من الممكن أن يغيب، أو ينسحب من جلسات القمة العربية!.. الأولى أو الأخيرة، لا فرق..
لم تعد النكسة تأتي عند مطلع حزيران مفردة عزلاء، صار لها أخواتها الفاجعات، ذكرى اجتياح لبنان، والشروع في حصار بيروت، لتحتفل بيروت مرة إثر أخرى بدمارها ونهوضها من (تحت الأنقاض).. وصار لدينا تاريخ سقوط بغداد، وحصار رام الله، والرئيس العالق في مكتبه منذ عامين، ودمار رفح والزيتون وخانيونس، وتناثر أشلاء ياسين والرنتيسي..
في العام 1982، كان ثمة جندي إسرائيلي يمتطي صهوة دبابة عاتية، وجد نفسه عند خطوته الأولى متوغلاً في الأراضي اللبنانية، مفتتحاً الاجتياح والحصار، يقول: (إنها رحلة)!.. وبعد واحد وعشرين عاماً (في العام 2003) سيكون ثمة جندي أمريكي يعتقد (عند أم قصر) أن ثمة رحلة سيقوم بها في العراق.. ولعله كان (أو مازال) يؤمل نفسه برحلات مماثلة!..
لم تكن رحلة هنا، ولا هناك.. فالكل عالقون (كمن يحمل الذئب من أذنيه)..
ثمة إشارة من أمل لا بد من التقاطها.. لكن المخيم مازال موجوداً، والفلسطيني غاطس في متاهته، وربما سيصطحب معه آخرين (غير العراقيين)، في المتاهة، طالما أننا في عالم من كلام!..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق