الثلاثاء، 5 يناير 2010

مي المصري.. على حدود الألم والوطن


تشكّل المخرجة مي المصري، حالةً من الاستثناء، سواء على مستوى تجربتها الحياتية، أو على مستوى تجربتها السينمائية. وربما هذا ما يجعل من العسير على المرء الفصل الواضح فيما بين تجربتيها الحياتية والإبداعية، إذ تبدوان في حالة من العلاقة الجدلية القصوى، وذلك على الرغم من تنافرهما الظاهري، الشديد، الذي يمكن أن يصل، في كثير من التفاصيل، إلى حدّ التناقض الشكلاني.
فالمسافة ما بين المرأة الرقيقة، ابنة العائلة الأرستقراطية، (إذا صح أن هناك أسرة فلسطينية أرستقراطية)، ذات العيش الرغيد، من جهة، والمخرجة التي تغوص في عالم المخيمات بكل تعاستها وبؤسها، فقرها وقهرها، من جهة ثانية، هي مسافة طويلة إلى الدرجة التي كان من المفترض أن لا تقطعها إلا التنظيرات التي تُسفح في الصالونات الأدبية، والافتراضات الذهنية التي يتمتع بها «المنسلخون طبقياً»!...
أما أن تذهب تلك المرأة إلى درجة الاندماج في موضوعها السينمائي إلى الدرجة التي تصبح فيها جزءاً من المخيم، أو يصبح المخيم جزءاً منها!.. أو أن تذهب المخرجة إلى الدرجة التي تُصاب فيها برصاص جندي الاحتلال الإسرائيلي، فيما هي تحقِّق فيلماً عن أولئك الفلسطينيين المنكودين، فهذا يعني أن الفكرة عند مي المصري تحولت إلى واقع، والاختيار صار خياراً.. دون أن تتخلص من أسئلتها.. في الحياة، وفي الإبداع!..
في سؤال الانتماء..

«مي المصري» في طراز تأمُّلي من الرؤية، يمكن أن تكون أشبه بـ «المرأة الموشور»، إذ أنها تنتسب إلى أب فلسطيني، من آل المصري، العائلة الكبيرة والمعروفة في نابلس، بل في الضفة الغربية كلها، والأردن، كما أنها تنتسب، من جهة أخرى، إلى أم أمريكية، من ولاية تكساس، تتصل بقرابة ما، مع «الجنرال لي»!.. وفي هذه المسافة الممتدة ما بين والدها «منيب المصري»، الرجل المقرّب جداً من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، تماماً إلى الدرجة التي تتذكّر فيها «الطفلة مي» جلوسها في أحضان ياسر عرفات، ربما في بيت أهلها، عندما كانوا في الجزائر، وما بين رمزية «خالها البعيد»، الجنرال الأمريكي، سوف تعيش المخرجة مي المصري مسافة من القلق، قبل أن تحسم خيارها لصالح ما سنراه في أفلامها العديدة.
و«مي المصري»، التي وُلدت في عمان، العاصمة الأردنية، ونشأت في الجزائر، سوف يتفتّح وعيها في بيروت مطالع السبعينيات، التي كانت تمور بالكثير من الأحداث والنشاطات، وكانت تقف على حافة المجهول. يومذاك كان للشابة «مي المصري» أن انخرطت في ممارسة النشاط الطلابي، في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وفي الأحياء الشعبية الحبلى بـ «المعترين». في ذاك الوقت كانت تجد نفسها في أوساط اللبنانيين، الذين كانوا أكثر انتباهاً وعناية بمثل هذه النشاطات، وربما لم يتح لها، كما تقول، أن تكتشف فلسطينيتها إلا بعد العام 1982.
ستزور مي المصري مدينتها نابلس، للمرة الأولى عام 1976، ومن ثم تتمكن من الزيارة الثانية، بعد غيبة طويلة وقسرية، وذلك في العام 1989، خلال أحداث الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الكبرى، وستقوم خلال تلك الزيارة بتحقيق فيلمها «أطفال جبل النار». وخلال تلك الزيارة ستصطدم بحقائق الواقع الذي تكتشفه من جديد، ومرة أخرى.
مي المصري، في فيض هذه التفاصيل الموجعة، والتي تتعلق بسؤال انتمائها، ستقول:
«في لبنان كنت غير لبنانية، وفي أمريكا عربية، وفي الأردن غير أردنية، وفي فلسطين غير فلسطينية، تماماً».
ليس أصعب من هذا الإحساس، أو أكثر قلقاً، من أن تكون دائماً «غير..»، ولعل المخرجة مي المصري بموهبتها البارعة، وثقافتها العالية، وإصرارها العنيد، وبمساعدة قدرية تهيأت لها من خلال الثنائية الاستثنائية، الحياتية والإبداعية، مع المخرج جان شمعون، حوَّلت كل هذا القلق إلى إبداع، اسمه «سينما مي المصري».
في سؤال السينما..

وجدت مي المصري في السينما خياراً حياتياً وتعبيرياً إبداعياً، فدرست السينما أكاديمياً، في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحصّلت على شهادة دبلوم (B A)، في الإخراج والتصوير، من جامعة سان فرانسيسكو، عام 1981، وعادت إلى بيروت كي تبدأ مسيرتها الفنية، مع الاعتقاد أن قرارها بالعودة إلى بيروت لم يكن من نافل الأمور، ففي حالة من هذا الطراز، أعتقد أنه من الطبيعي أن يجري التفكير في خيارات أمريكا وعمان وبيروت، وربما أي دولة في العالم، طالما أنك «غير..».
ستعود مي المصري إلى بيروت، ويمكن لنا أن نذكر أنها كانت قبل السفر إلى الدراسة قد عملت مساعدة مع المخرج اللبناني جان خليل شمعون، وعندما عادت بعد سنوات كانت بداية التعاون المستمر بينهما. وعلى ما في بداية هذه العلاقة من طرافة (لا أدري إن كان جان قد سدَّد ما بقي لمي بذمته، عن شغلها معه في ذاك العمل).. ففي هذه العلاقة، والتعاون الإبداعي، من الجدّة والجديد، ما هو متميز في العالم العربي عموماً، وقد لا نغالي كثيراً، إذا قلنا: وفي العالم أيضاً!..
بدأ جان شمعون عمله السينمائي منذ منتصف السبعينيات، بعد عودته من الدراسة في فرنسا، وذلك عندما اشتغل في إطار سينما الثورة الفلسطينية، حيث تعاون مع المخرجين مصطفى أبو علي، وبينو أدريانو لإنجاز فيلم «تل الزعتر» عام 1977، كما أخرج فيلم «أنشودة الأحرار» عام 1979. وبدأت مي المصري مسيرتها عام 1983، بفيلم «تحت الأنقاض»، الذي يتناول على نحو تسجيلي وثائقي الأحداث الدامية التي عرفتها بيروت خلال الغزو الإسرائيلي، الحصار والاجتياح، وما انتهى من مجزرة فظيعة في صبرا وشاتيلا.
سوف يحتاج كل فيلم أنجزته المخرجة مي المصري، وحدها، أو بالاشتراك مع جان شمعون، إلى دراسة خاصة، تبين أسلوبية العمل، ومنهجيته، واتجاهه، العلاقة بين الشكل والمضمون، الصورة والكلمة، فلسفته.. تماماً كما تحتاج تجربة مي المصري، ذاتها، إلى أكثر من كتاب، يرصد جوانب من هذه التجربة السينمائية، سماتها، مميزاتها، خصوصيتها، استثنائيتها، وفلسفتها..
من هنا يأتي كتاب الناقد السينمائي فجر يعقوب «مندوبة الأحلام/سينما: مي المصري»، الصادر ضمن كراسات السينما، المرافقة لمهرجان «مسابقة أفلام من الإمارات»، في دورته الخامسة، المنعقدة 2005؛ الكتاب الذي وضع له مقدمة الناقد السينمائي إبراهيم العريس، محاولة أولى للوقوف على بوابة هذا العالم الإبداعي، واستكشاف تفاصيله، ورؤاه، ومدى مساهمته في بناء المشهد السينمائي العربي عموماً، في طرازه التسجيلي الوثائقي، واتصاله بالقضية الفلسطينية، وتشابكاتها، وتعقيداتها، وإمكانية السينما في قول ما في هذا الصدد.
يبني الناقد فجر يعقوب كتابه هذا على هيئة مونولوج طويل، يسترسل من خلاله بالحديث عن تجربة المخرجة مي المصري، مستنداً إلى إطلاعه الدقيق والمتأمل على ما أنجزته من أفلام طيلة العشرين سنة الماضية، منذ العام 1983، وحتى الآن، تماماً كما هو يتكئ على معرفة وطيدة بالمخرجة/الإنسان، فخوراً بهذه المعرفة، معتزاً بالصداقة، محتفياً بالمبدعة، دون أن تذهله كل تلك التفاصيل عن الرؤية النقدية الواعية، التي تلتقط التفاصيل المعبّرة، المنسوجة بدقة في ثنايا هذا الفيلم، أو ذاك.
وعلى الرغم من أنه من الصعوبة الفصل فيما بين تجربة مي وجان، إلا أن الناقد إبراهيم العريس يقول: «تحمل "الفيلموغرافيا" الخاصة بالمخرجة الفلسطينية مي المصري، منذ أواخر سنوات الثمانين من القرن الماضي، وحتى اليوم، أربعة أفلام حققتها وحدها كمخرجة، بعدما حققت مجموعة أفلام أخرى شراكة مع زوجها المخرج اللبناني جان شمعون».
وفيما لو عدنا إلى "الفيلموغرافيا" التي يشير إليها العريس، لوجدنا أن مي المصري حققت بالاشتراك مع جان شمعون الأفلام التالية: (تحت الأنقاض 1983. زهرة القندول 1987. بيروت/جيل الحرب 1988. أحلام معلقة 1992. رهينة الانتظار 1994). بينما حققت هي لوحدها الأفلام التالية: (أطفال جبل النار 1991. حنان عشراوي/امرأة في زمن التحدي 1995. أطفال شاتيلا 1998. أحلام المنفى 2001). وحقق جان شمعون الأفلام التالية: تل الزعتر 1977، أنشودة الأحرار1979، طيف المدينة 2001. أرض النساء 2004).
أعتقد أنه الصعوبة الفصل فيما بين تجربة مي وجان، على الأقل لأن أياً منهما لم يذهب إلى مهمة تحقيق فيلمه، دون أن يكون الآخر معه، مساعداً في الإخراج، أو منتجاً منفذاً، فما بالك عن جلسات الحوار والنقاش التي يمكن التكهن بملامحها، خاصة وأن أفلام كل منهما تبين إلى أي مدى وصل التناغم الروحي والعقلي، الفكري والثقافي، والانسجام الرؤيوي، بصدد مفهوم السينما ودورها، وقدرتها على الفعل، وإمكانية توظيفها، كأداة اتصال جماهيري، ووسيلة تعبير إبداعي، ووسيط دلالي..
«مندوبة الأحلام».. على حدود الوطن والألم

ميزتان اثنتان تميزا سينما مي المصري:
أولهما: أنها لم ترصد أفلامها للشخصيات المعروفة، من قيادات أو مشاهير في الثورة والسياسة، أو الفكر والفن الأدب، بل اهتمت في أفلامها بالناس العاديين، الذين يمكن أن تصادفهم دائماً، في المخيمات، أو الحياء الشعبية، أو على هوامش المدن العربية.. الناس العاديين الذين يعيشون في ظروف غير عادية.. ولم تخرج عن هذه القاعدة إلا كرمى لعيني «حنان عشراوي»، باعتبارها نموذجاً لصورة الفلسطيني الجديدة، ومحك اختبارها.
وثانيهما: أنها جعلت من ثنائية الطفولة والحلم، الأرضية التي تنبني عليها موضوعات أفلامها، فدائماً سنجد أطفالاً، يتكررون ربما من فيلم إلى آخر، ومع ذلك يبقون في إطار الطفولة ذاتها، حتى وأن ظهرت علامات السنوات التي تمر بين تحقيق فيلم وآخر، على وجوههم. كما سنجد الأطفال ذاتهم يتبادلون مواقع الصدارة، من فيلم إلى آخر. فعلى سبيل المثال، بينما نجد «فرح» و«عيسى» في مقدمة الصورة، في فيلم «أطفال شاتيلا»، سنراهما يتواريان خلف صورة «منى» و«منار»، في فيلم «أحلام المنفى»..
إذاً، باستثناء فيلم «حنان عشراوي.. امرأة في زمن التحدي»، ستبدو أفلامها: «أطفال جبل النار» 1991، «أطفال شاتيلا» 1998، «أحلام المنفى» 2001. بمثابة الثلاثية الشغوفة بالطفولة والأحلام، في واقع لا يأبه ببراءة الطفولة، ولا بنضارة الأحلام. وفي كافة أفلامها انشغلت بالحكاية الفلسطينية من جوانبها الإنسانية المتعددة، حتى بات من المناسب القول إن كل فيلم من أفلام مي المصري، هو بطاقة تعريف لفلسطين، أمكنة وناس وشخصيات وأحداث وأزمنة وذاكرة.. تقف على حدود الوطن والألم..

هناك تعليق واحد:

  1. أهلا بشار ، وصلت بالمصادفة لمدونتك الغنية أخ بشار ، تقابلنا فى الاسماعيلية بمهرجانها التسجيلى،سأتصفحها جيدا ونتواصل. لى مدونة متواضعة باسم دنيا الفيلم.
    donyalal-film.blogspot
    خالص التحية
    صفاء الليثى

    ردحذف