الخميس، 8 يوليو 2010

غسان كنفاني.. سينمائياً!..

كان غسان كنفاني قاصاً، وروائياً، وفناناً تشكيلياً، وكاتباً مسرحياً، وناقد أدبياً، وباحثاً ودارساً، وكاتباً سياسياً، وصحفياً.. أيضاً.. فلماذا لم يقترب من السينما؟..
لا شك أن غسان كنفاني شهد بدايات السينما الفلسطينية، التي كانت تنمو في كنف مؤسسة الثورة الفلسطينية، التي كان غسان أحد رجالاتها.. «ألم يكن عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟..»!.. وربما كان غسان أحد قيادات الجبهة الذين التقوا، ذات وقت، لمشاهدة فيلم «نهر البارد» التجربة السينمائية الأولى والمميزة، التي أنتجتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بإخراج العراقي قاسم حول، عام 1971.
كان فيلم «نهر البارد» تجربة سينمائية مميزة، ومثيرة، إذ أن المخرج قاسم حول، القادم من العراق محملاً برؤى وأفكار، وطموحات سينمائية، أراد من خلال هذا الفيلم تبيان أهمية وقدرة النص السينمائي على القول والتعبير!.. وأن يضع تلك التجربة بين أيدي قيادة الثورة الفلسطينية، فاختار الحديث عن المخيم الفلسطيني، وعن دور المخيمات واللاجئين، في المعاناة والثورة، على السواء.. ومن المعروف أن المخيمات واللاجئين كانت الهم الذي يشغل غسان في القصة والرواية.. فهل لم تحرّك تلك التجربة السينمائية شيئاً في اهتمامات غسان نحو هذا الفن الجديد في الميدان الفلسطيني؟..
غسان كنفاني، الناطق والمسؤول الإعلامي، والمتحدّث بطلاقة بأكثر من لغة، عرف مهمة الجلوس أمام الكاميرا السينمائية، الوسيلة الوحيدة تقريباً، التي كانت تسجل المناسبات الفلسطينية، خاصة المؤتمرات الصحفية، والبيانات السياسية، والانطلاقات الفصائلية.. فلماذا لم تقدر تلك الكاميرا السينمائية على إشعال نار الغواية في جوانحه، وتدفعه للتعامل معها أكثر من الشكل «البروتوكولي» المرتبط بمهمة، وطبيعة عمل، لا بد منه؟..
غواية السينما!..
المثير في الأمر، أنه منذ العام 1968، وكان غسان قد أنجز غالبية أعماله الروائية والقصصية، بدأ الاتجاه الملفت للتعامل، فلسطينياً وعربياً، مع القضية الفلسطينية، من خلال فن السينما؛ ففضلاً عن ولادة سينما الثورة الفلسطينية، ظهرت في لبنان أفلام أنطون ريمي «القدس في البال» 1967، و«فداك يا فلسطين» 1969، وفلاديمير تماري «القدس» 1968، ورضا ميسر «الفلسطيني الثائر» 1969، وغاري غاربيديان «كلنا فدائيون» 1969، وسمير نصري «الجنوب في براثن الأعداء» 1970..
كما ظهرت في سوريا أفلام نبيل المالح «إكليل الشوك» 1969، و«نابالم» 1970، وقيس الزبيدي «بعيداً عن الوطن» 1969، و«الزيارة» 1970، وفيصل الياسري «نحن بخير» 1969، ونبيل المالح ومروان شاهين ومروان مؤذن، في ثلاثية «رجال تحت الشمس» 1970.. وعرف الأردن العديد من المحاولات السينمائية، بدءاً من فيلم «وطني حبيبي» لمحمود كعوش 1964، وأفلام علي صيام «زهرة المدائن» 1967، و«الخروج» و«كتاب لك» 1968، و«الأرض المحروقة» 1969، وسمير حسن في «بعد النكسة» 1968، وعدنان الرمحي في «عشرون عاماً، لقاء في عجلون، الشريف حسين» 1969، ومصطفى أبو علي في «الحق الفلسطيني» 1968، و«ريبورتاج» 1969. وصولاً إلى فيلمي عبد الوهاب الهندي «الطريق إلى القدس» 1969، و«كفاح حتى التحرير» 1969، الروائيين الطويلين..
كل هذا ناهيك عن التحولات الكبرى التي كانت السينما المصرية قد بدأت تشهدها، منذ ثورة تموز 1952، وتصاعدت بعد النكسة الحزيرانية 1967، ووصلت إلى ذروتها بتأسيس «جماعة السينما الجديدة» 1968، والأفلام الروائية والتسجيلية التي هي أكثر من أن نعدها.. وكذلك بالتوافق مع شروع العديد من وفود السينمائيين الأجانب، ليس من العالم الاشتراكي، فقط، بل من أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، بالتوجّه إلى قواعد الثورة، وفي مقدمتهم المخرج جان لوك غودار، ومانفريد فوس، ولويجي بيريللي، وفرانسيس روسير..
كل هذا!.. فلماذا لم يتلوَّث غسان كنفاني بغواية السينما، ولم يتعامل معها، بما هو أكثر من مستوى المشاهد المتابع، أو المراقب عن كثب، ودون أن يُؤثر عنه أنه كتب عن السينما، أو كتب لها؟!..
إنه أمر غير مفهوم تماماً!.. ولا نستطيع إحالته إلى ما يمكن أن يتحدَّث عنه بعض النقاد السينمائيين اليوم، من تهافت في مستويات تلك الأفلام، وضعفها الفني، أو عن خطابها السياسي المباشر، خاصة وأنه من المأثور عن غسان ابتعاده عن الشعار السياسي المباشر، في غالبية أعماله الإبداعية، ومحاولته الجادة في التأمل في الشأن الفلسطيني، دون أن يفلت تماماً من رؤيته الذهنية المضمّخة بالمقولات الأيديولوجية، على الأقل في مقدمته القصيرة، التي وضعها لروايته «أم سعد» 1969، أو في قصته القصيرة «قرار موجز»..
بل لابد من بحث أسباب عزوف غسان كنفاني عن السينما في مجال آخر، لا علاقة له بكل ذلك.
غسان.. حالة شغف
كان غسان كنفاني في حياته القصيرة (36 عاماً) أنموذجاً طافحاً لحالة الشغف. نستطيع الانتهاء إلى هذا الاستنتاج من خلال العديد من التفاصيل المتفرقة، التي نلتقطها في الحياة اليومية لغسان، كما من ذلك التناثر الجميل على العديد من الأنساق الإبداعية التي جرَّبها، من القصة القصيرة، إلى الرواية، إلى المسرح، إلى الفن التشكيلي، وربما الشعر.. ومن البحث والدراسة، إلى النقد الأدبي، إلى الكتابة الصحفية والتحليل السياسي، إلى الكتابة الساخرة..
من تراه ينتبه إلى أن غسان كنفاني كان مُولعاً بشراء المحار، خلال إقامته وعمله في الكويت؛ وهو ما يشبه تماماً ولع البعض بشراء أوراق اليانصيب، اليوم؟!.. بل من تراه يجيب على سؤال إذا ما كان غسان قد انتقل إلى شراء طراز هذا الأوراق في لبنان، نظير ما كان يفعله من شراء المحار في الكويت؟!..
هل هذه أسئلة تافهة؟.. ربما!.. لكنها حتماً تفيد في قراءة طبيعة تلك الشخصية الفذة والاستثنائية، خاصة إذا ما ربطناها بحقيقة أن غسان كنفاني كان على اضطرار للتعايش مع مرض السكري، ومع وخزات حقن الأنسولين، منذ فترة مبكرة في حياته.. وحقيقة أن غسان شهد محنة النكبة واللجوء، وهو غرٌّ في الثانية عشرة من عمره (غسان من مواليد عام 1936)، واضطر للخوض في كثير من التفاصيل المؤلمة في حياة الصبا والفتوة واليفاعة.. كما ذكر شقيقه الأديب عدنان كنفاني في كتابه «صفحات كانت مطوية من حياة غسان»..
هكذا، يمكننا القول، ربما بجرأة غير مسبوقة، إن غسان بما كان فيه، وبما كان عليه، كان حالة من الشغف، بالحياة، والإبداع!.. بل قُلْ بالرغبة الهائلة في تحويل حياته إلى حالة من الشغف الإبداعي، ولعله كان يرى أن حياته المهددة بالمرض، في كل لحظة، لا قيمة لها إلا إذا تحوَّلت إلى معطى حياة تعبيرية، وهو ما يمكن أن يفسّر ذلك الإنتاج الإبداعي الكبير، الذي يمكن لرجل غادر الدنيا في السادسة والثلاثين، أن ينجزه.. خاصة وأنه لم يترهبن في محراب الأدب والإبداع، بل تزوّج «السيدة آني كنفاني»، وأنجب من الأولاد «فايز وليلى».. وعاش حالة عشق ما مع الأديبة السورية غادة السمان، أظهرتها رسائله التي نشرتها هي فيما بعد!.. وكان له من الأصدقاء والشؤون والاهتمامات والأعمال والمشاريع، ما يليق بأي رجل عادي، غير متفرغ لشأن خاص، بعينه..
لعل غسان لم يأبه إلى فن السينما بسبب أنها من طراز العمل الجماعي، الذي لا يقوم إلا باجتماع عدد من المبدعين والعاملين والفنيين والتقنيين، وغسان كان، على ما يبدو، حالة من الشغف، والإبداع الفردي!.. إنه رجل أمل وتأمّل، وهذا ما تعكسه، بقوة، أعماله الإبداعية التي أنتجها، والأفكار التي اشتغل عليها.. ولعلي هنا أشبهه تماماً بذلك الكاتب الذي كان ينتظر قدوم «أم سعد» كل ثلاثاء، ليكتشف على يديها الجديد. والذي لم يذهب إلى مخيمها سوى مرة واحدة، عندما تغيبت، ليكتشف أيضاً، الوجه الآخر منها..
غسان.. جدل الواقع والمتخيل
من فيلم (المخدوعون)
في أعمال غسان كنفاني كافة، يمكن للمرء الوقوع على حقيقة لا مراء فيها، وهي حقيقة ذلك الجدل العميق بين الواقع والمتخيل. وربما من الصعب الحديث عن أيٍّ من أعمال غسان الإبداعية، دون تلمّس ظلال الواقع تتوارى وراء الأحداث والشخصيات.. وهذا لا ينتقص أبداً من حقيقية القدرة الإبداعية، والطاقة التخييلية، التي كان غسان يمتلكها، بشكل استطاعت الارتقاء بالأحداث والشخصيات من مستواها اليومي، وتجربتها الحياتية الخاصة، إلى مستوى المعطى الدلالي التعبيري، عن شعب وقضية، وأمة..
في جدل الواقع والمخيلة في أدب غسان، ثمة من يقول إن حكاية دخول الخزان، في رواية «رجال في الشمس» لها أصل حقيقي. وأن شخصيات أو نماذج ثانوية، وردت في تلك الرواية، مثال زكريا الذي ترك أخاه مروان ليغوص في المقلاة، ووالده الذي ذهب للزواج من امرأة عاجزة، في موقف وانتهازي وخلاص للذات، إنما هي شخصيات حقيقية.. التقطها غسان، وحوَّرها، وطوَّعها، لتخدم البنية الروائية، والمقولة الفكرية في أعماله..
ويمكن للمرء، القارئ بتمعّن لمنجز غسان كنفاني الإبداعي، أن يلاحظ الدائرة الضيقة، إلى حدّ ما، التي تدور فيها شخصياته، يدلّ على ذلك التكرار في الأسماء ذاتها، بين عمل وآخر «من طراز أسعد وسعد وسعيد وزكريا وقاسم وقيس وأبو قاسم وأبو قيس».. وهو ما يمكن أن يؤشّر، في أحد وجوهه، إلى حقيقة المرجعيات الواقعية لتلك الشخصيات، وتدخّل الواقع في حدود المخيلة، وارتباط الشخصية بالاسم!.. وإلى أي درجة كانت تترسخ تلك الشخصيات في ذهنه، ومرجعياته..
لكن الحالة الأبرز، والأكثر وضوحاً في تداخل الواقع والمخيلة في أدب غسان كنفاني، تتجلّى في شخصية أم سعد، التي كانت الحامل الدرامي الروائي الأساس في روايته «أم سعد»، دون أن تفقد أشكالاً متعددة من الحضور في قصصه القصيرة، أيضاً.. إذ لا بد من الانتباه إلى أن حضور أم سعد لم يكن لدى غسان كنفاني حكراً على الرواية التي حملت اسمها، بل إنه أدخلها في نسيج أعماله الأخرى، مرافقة لسعد وأسعد وسعيد، وخيمة الثورة التي ستفرق عن خيمة اللجوء.. وفي سياق الإشارة إلى انتقال الفلسطيني من وضعية اللاجئ إلى الفدائي الثائر..
لا خلاف اليوم على أن «أم سعد» هي التحوير الروائي لشخصية «أم حسين» الحقيقية، وأن الأديب غسان التقطها من الواقع، وأعاد صياغتها على نحو درامي روائي، وحمَّلها من المقولات ما يريد هو، حتى أنها بدت في الرواية التي حملت اسمها «أم سعد» أكثر ثقافة ووعياً، وقدرة على النفاذ إلى عمق الأشياء من شخصية الكاتب ذاته!.. وذلك وإن كان يتوافق مع المقولة الأيديولوجية التي صدَّرها الكاتب في تقديمه للرواية في حديثه عن الطبقات المكافحة، إلا أنه لا يملك مبرره الدرامي، ولا يجيب عن سؤال أثر تلك الأعمال الخدمية على المخيم وناسه وقيمه.. هلا انتبهنا إلى أن أم سعد كانت تعمل ماسحة إدراج، وفي تنظيف البيوت؟.. ومن تراه ينكر اليوم الأثر المرعب «سلبياً» الذي أنتجه طراز هذا النسق من العمل الخدمي على المنظومة القيمية الأخلاقية والسلوكية في المخيمات؟..
نعود للقول، إن غسان كنفاني بدا على هيئة حالة من الأمل والتأمل.. حالة من الشغف، التي أرادت بفرادتها الإبداعية، وقدرتها التعبيرية، الاتكاء على فرديتها في سبيل الارتقاء بالفلسطيني من مستوى الإنسان اليومي الحياتي إلى مستوى المقولة الفكرة.. ولعل ذلك ما جعل صفة غسان باعتباره عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تأتي في ثنايا قائمة التعريفات المتعددة، جداً له.. ونفتقد لصفة السينمائي فيه تماماً..
السينما تقتفي أثر غسان..
من فيلم (السكين)
لم يشتغل غسان في السينما.. نعم!.. بل ربما لم يرَ أيَّاً من الأفلام التي صيغت عن رواياته، وذلك على الرغم من أنه وقّع عقدي تحويل روايتين له، على الأقل، هما رواية «ما تبقى لكم» 1966، و«رجال في الشمس» 1963، إلى فيلمين روائيين طويلين، هما على التوالي فيلم «السكين» لخالد حماده 1971، و«رجال في الشمس» لتوفيق صالح 1972.
استشهد غسان يوم الثامن من تموز عام 1972، وهذا ما يعني أنه عاش بضعة أشهر، بعد الانتهاء من العمليات الفنية للفيلمين، وجهوزيتهما للعرض.. فمن المؤكد أن فيلم «المخدوعون» كان قد أصبح جاهزاً للعرض، منذ الشهر الأخير في عام 1971، وكذلك بصدد فيلم «السكين».. فهل لم يكن غسان مستعجلاً لمشاهدة الفيلمين اللذين صيغا عن روايتيه؟.. بل لماذا لم يقم بكتابة سيناريو وحوار أيّ من الفيلمين؟.. ولماذا لم يقم بإسناد تلك المهمة لمن يختاره هو من الأدباء، وترك العملية لمخرجي فيلميه على السواء؟.. فالمخرج خالد حماده كتب سيناريو وحوار فيلمه «السكين»، وتوفيق صالح كتب سيناريو وحوار فيلمه «المخدوعون»..
ثمة من يقول إن غسان ما كان قادراً على الحضور إلى دمشق، لأسباب سياسية تتعلق بكونه عضواً في حركة القوميين العرب «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كانت الجناح الفلسطيني العسكري لها».. وثمة من يقول إن الأفلام ما كانت قادرة على السفر إليه في بيروت!.. حسناً، ربما يصحُّ هذا على مستوى تبرير عدم مشاهدة غسان للفيلمين، فما المبرر إذاً لعدم مشاركته في كتابة السيناريو والحوار، أو الإشراف عليه، أو الاهتمام بحضور التصوير؟.. مع ملاحظة أن جزءاً كبيراً من فيلم «المخدوعون» تمَّ تصويره في العراق..
مضى غسان كنفاني شهيداً، وترك خلفه فيلمين أُعدَّا عن روايتين له، لم يشاهد الفيلمين، ولا اهتم بمتابعة العمل فيهما.. وإذا كان الفيلمان حققا مستويين متفاوتين من البراعة، فإن السينما التي لم يبدُ أن غسان قد اهتم بها في حياته، شاءت الاهتمام به بطريقتها الخاصة، واقتفاء أثره في أفلام تتالت طيلة ثلاثين سنة مضت على رحيله..
(خلال مهرجان مسقط السينمائي الدولي 2008، التقيتُ المخرج توفيق صالح، فأكد لي أن غسان كنفاني شاهد نسخة من فيلم «المخدوعون»، من خلال نسخة حملها المخرج شخصياً إلى بيروت حيث كان غسان)!..
رواية غسان.. سينمائياً..
المخرج توفيق صالح
«السكين» الفيلم الروائي الطويل، الذي أعده المخرج خالد حماده، لصالح المؤسسة العامة للسينما السورية، عام 1971، كان أول فيلم روائي طويل يتمُّ إنجازه عن أدب غسان كنفاني، من خلال الرواية التي حملت عنوان «ما تبقى لكم»، والتي كتبها في العام 1966. وبمقدار ما كانت الرواية معقدة وصعبة، إذ اعتمد فيها غسان على التجريب الفني، من خلال تحطيم الزمان والمكان، والانتقالات المتعددة بينهما، واستثمار الدلالات الرمزية العميقة الغور، واستنطاق الأشياء بعد أنسنتها.. بالمقدار ذاته كان على الفيلم، الذي حرص المخرج على الأمانة الأدبية التامة له، أن يواجه سؤال النجاح، الأمر الذي أنتج آراء متفاوتة، بل متناقضة، تجاه الفيلم، ففي حيت اعتبر الناقد السوري محمد الأحمد أن فيلم «السكين» واحداً من أهم الأفلام السورية، فهناك من رأى أن الفيلم لم يستطع الارتقاء إلى مستوى الرواية، ونحن نعتقد أن كليهما على حق، إذ لا يجوز في رأيينا المقارنة بين الوسيط الأدبي «الرواية» والوسيط السينمائي «الفيلم»، فلكل منهما أدواته، وطرائقه في التعبير..
لكن فيلم «المخدوعون» الذي أخرجه المصري توفيق صالح، للمؤسسة العامة للسينما في سورية، عام 1972، بعد فشله في الحصول على موافقة المؤسسة العامة لسينما في مصر، لإنتاجه، منذ العام 1965، فقد حصل على العديد من الجوائز، وأهمها التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج 1972، والجائزة الأولى لمنظمة السينما الكاثوليكية 1975، فضلاً عن الاحترام والتقدير الذي ارتقى إلى أن اعتبر الفيلم «رائعة كلاسيكية من السينما العربية» ووصف عمل توفيق صالح في هذا الفيلم بأنه «إخراج حاذق وتصوير نضر بالأسود والأبيض» وأن الفيلم «واحد من أفضل درامات التشويق في السينما العربية»..
وفي العام 1982 بادرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، من خلال ما أسمته يومها «مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي» إلى تحقيق الفيلم الروائي الطويل اليتيم في إطار سينما الثورة الفلسطينية، وذلك عندما أسندت إلى المخرج العراقي قاسم حول مهمة إخراج فيلم «عائد إلى حيفا» عن رواية غسان التي تحمل ذات الاسم، ويمكن القول إن الآراء اختلفت حول هذا الفيلم، ومستواه الفني، على الرغم أن المخرج استعان بقيس الزبيدي في المونتاج، وزياد الرحباني في الموسيقى، ومجموعة من الممثلين اللبنانيين والسوريين من طراز حنان الحاج علي، وبول مطر، وجمال سليمان، والألمانية كريستين شور.. وفي رأينا أن الفيلم كان مرتبكاً، لا يرتقي إلى الطموح.. إخراجاً وتمثيلاً، مع إدراكنا لصعوبة الظروف، وضعف الإمكانيات المتوفرة..
وفي العام 1995، قام المخرج الإيراني سيف الله بالعمل على رواية «عائد إلى حيفا» مرة أخرى ليقدِّم فيلمه «المتبقي».. وهو إذ استعان بطاقم من الممثلين السوريين أمثال جمال سليمان وجيانا عيد وسلمى المصري وعلاء الدين كوكش وغسان مسعود.. وغيرهم من الممثلين والفنيين والتقنيين، وقام بتصوير فيلمه في مدينة اللاذقية توأم مدينة حيفا، فقد صنع فيلماً تلتبس هويته بين العربية والإيرانية، إذ رأينا نسخة ناطقة بالعربية وأخرى مدبلجة بالفارسية..
ولكن السؤال الأهم، الذي يثيره فيلم «المتبقي» هو إلى أيّ مدى يحقُّ لمخرج سينمائي أن يغيّر في جوهر الحكاية، ومنطق الرواية الأدبية، التي يعتمد عليها؟.. ففي حين أراد غسان كنفاني البحث في مسألة كون «الإنسان قضية»، وذلك من خلال حكاية تحوّل «خلدون» الفلسطيني، الذي تُرك، وإن قسراً، رضيعاً ليتربى في كنف أسرة يهودية، فأصبح جندياً صهيونياً بامتياز اسمه «دوف»!.. فإن المخرج الإيراني سيف الله داد، غيّر في جوهر الحكاية، وسياقاتها، ليجعلها قصة كفاح الفلسطينيين، وليبني في فيلمه نشيداً للكفاح المسلح الفلسطيني، لم يكن في بال غسان كنفاني التطرّق إليه، في هذه الرواية، بل كان همه إثارة السؤال حول من هو الصهيوني؟.. ومن هو الفلسطيني؟..
غسان.. ملامسات سينمائية..
لن نقول إن استشهاد غسان كنفاني، بتلك الطريقة الفاجعة الغادرة، تماماً بمتفجرة وضعها أعداؤه في سيارته الواقفة أمام بيته في الحازمية ببيروت يوم 8/7/1972، فطار مع انفجارها هو وابنة أخته لميس.. لن نقول إن ذلك لم يكن له أثر ما في إضفاء المزيد من الألق على غسان وأدبه، وإشاعة المزيد من الاحترام والقداسة، مدعومة بشغل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، على إعلائه باعتباره أحد رموزها!.. ولكننا سنقول، في الوقت ذاته، إن مرَّ السنين أثبت أن دم غسان كان يمكن له أن يجف، وأن ثأره كان يمكن له أن ينطفئ، وأن ذكراه كان يمكن لها أن تتوارى في ثنايا قوائم عشرات الآلاف من أسماء الضحايا الفلسطينيين، لولا أن إبداعه الثرّ أثبت أنه لا يمكن أن ينضب، مهما تعدّدت القراءات التي تمرّ عليه، وعلى الرغم من انطواء نيف وثلاثين سنة على نزف دمه وحبره، على السواء..
كأنما غسان كنفاني كان يكتب بحبر يرتقي إلى مستوى الدم الذي لا يجف، فبقي شاباً ناهضاً على الرغم من بلوغه السابعة والستين، اليوم. إنه ما زال، حتى اليوم، يحتفظ بملامح ابن السادسة والثلاثين، نظراته الآملة والمتأملة، شعره الأسود، والشارب الأثير.. فقد عفاه الله من قصّه على إيقاع تحدي الفنان ناجي العلي..
وغسان، الحاضر على الرغم من أنف الغياب، سيتجدد حضوره في المنتج السينمائي، ليس فقط على الطريقة الاحتفائية التي صنعها المخرج قاسم حول، في فيلمه «لن تسكت البنادق»، الذي أنتجته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عام 1973، لتبني وثيقة بصرية مستندة إلى خطاب جورج حبش، الأمين العام للجبهة، في الذكرى الأولى لاستشهاد كنفاني.. أو في فيلمه «غسان كنفاني.. الكلمة البندقية» من الإنتاج نفسه، وفي العام ذاته، حيث نجد وثيقة بصرية نادرة، يتحدث فيها غسان كنفاني باللغة الإنكليزية، وربما هي المشاهد الحية الوحيدة لغسان، المتوفرة بين يدينا.. بل سنرى أن المخرج العراقي ياسين البكري يقدم فيلمه «زهرة البرقوق» الروائي القصير «مدته 22 دقيقة» من إنتاج مؤسسة السينما والمسرح في العراق، عام 1973.. كما سيقدم المخرج الفلسطيني صبحي الزبيدي فيلماً بعنوان «نساء في الشمس» 1999، في إهداء للأديب الشهيد غسان كنفاني، ومحاولة محاكاة لمأساة رجاله الفلسطينيين، من خلال مأساة مجموعة من النساء الفلسطينيات، في الأرض المحتلة..
ولكن من تراه يستغرب إذا قلنا إن ثمة فيلماً إسرائيلياً، بعنوان «تابوز»، أنتج عام 1998، أراد الحديث عن أرض البرتقال، تلك الأرض، ذاتها، التي طُرد منها غسان، من أجل تحويلها إلى «أرض إسرائيل»، فاعتمد على مجموعة من النصوص الأدبية: «بستان برتقال» لبنيامين تموز، و«ممر قشور البرتقال» لناعوم غوتمان، و«غرام البرتقال» لداليا رافيكوفيتش.. و«أرض البرتقال الحزين» لغسان كنفاني!..
أرأيت يا غسان كيف يسرقوننا، حتى بأدبك؟..
غسان.. هل تراك تعلم بعد عمر من رحيلك، بعد قرابة أربعين سنة من شظاياك، أن الفلسطينيين ما زالوا.. «رجال في الشمس»؟..

الخميس، 20 مايو 2010

سينما مختلفة

يرتبط المُختلِف بالمُختلَف عنه، مقايسةً على الأقل.. فأن نقول: «سينما مختلفة»!.. هذا يستدعي حكماً وبالضرورة القول: عما تختلف؟.. وبم تختلف؟.. وكم تختلف؟.. وكيف تختلف؟.. ولماذا تختلف؟..
وطالما أن للاختلاف، عموماً، مستويات متعددة، فهو في مجال السينما يتعلق بمحدداتها الأساس: الفنية البنائية، أولاً، والمضمونية الفكرية، تالياً.. فالسينما فن سمعي بصري، فضلاً عن كونها خطاب فكري، ورؤية، ومقولة.. وبالتالي فالاختلاف في حالتها يتعلق بواحدة من هذه المرتكزات على الأقل، أو جميعها معاً..
وللتفصيل نقول: إن «السينما المختلفة» قد تكون «مختلفة» لأنها تقدم بنية فنية مختلفة على صعيد الصوت والصوت (السمعي البصري)، أو على صعيد البناء الفني (التصوير والمونتاج والتركيب)، أو على صعيد الخطاب الفكري (الرؤية والمقولة والموقف)..
من المُتعارف عليه، ولو ضمنياً، أن «السينما المختلفة» هي «مختلفة» عن «السينما السائدة»، أو «التجارية»، أو «الرائجة»، أو«الهابطة»، أو عن مقولة: «السينما من أجل السينما».. فثمة من يرى أن «السينما المختلفة» ضد مقولة «الفن الفن»، أو «الفن للمتعة».. إنها مع الفن من أجل الحياة، من أجل الإنسان وقضاياه..
«السينما المختلفة» هي كذلك مختلفة، لأنها تحمل أطروحات فنية، أو أطروحات فكرية، أو مواقف سياسية اجتماعية ثقافية فكرية.. تمتلك رؤية تجاه الذات والعالم، نحن والآخر، وجدل العلاقة بين الفن والحياة..
فنياً، يرى النقد أن «السينما المختلفة» لا تكون إلا إذا كانت ذات مشهدية بصرية غنية بالدلالات والرموز والعلامات، وذات تركيب فني وبنائي معقد جداً (وربما بسيط جداً).. على الرغم من أن هذين الشرطين، يجعلانها عصية على التلقي السريع.. خاصة للمشاهد العادي..
فكرياً، يرى النقد أن «السينما المختلفة» لا تكون إلا إذا كانت جريئة، مغامرة، مفاجئة، صادمة، مدهشة.. سينما تتناول المسكوت عنه، وتدخل في المحظور، وتفضُّ الصمت، وترجّ الساكن.. على الرغم من أن هذا يثير كلاً من السلطات المنغلقة المستبدة، والفكر المُحافظ، والمشاهدين التقليديين..
على هذا، يبدو أن من قدر «السينما المختلفة» أن لا تكون على شيوع جماهيري واسع، ليس لأنها تقدم الجديد والمختلف عما اعتاده المشاهد، فقط، بل لأنها لا تتوافق مع كسل التلقي، السائد لدى الجمهور، خاصة العربي، وبالتالي فهي تحتاج من المشاهد أن يمارس التلقي الفاعل والمتفاعل.. في «السينما المختلفة» يصحُّ القول إن المشاهدة هي عملية إعادة إنتاج النص السينمائي، وتفكيكه، واستخلاص مغازيه، واستكناه دلالاته ومراميه..
القليل جداً من أفلام «السينما المختلفة» حققت نجاحاً جماهيرياً، وقت عرضها.. ولكن الكثير من هذه الأفلام أُعيد الاعتبار إليها بعد شوط من الزمن.. ويمكن القول إن «السينما المختلفة» سابقة لزمن عرضها، ولذائقة المتلقي..
«السينما المختلفة» تبني «اختلافها» وتراكم «حضورها» بأناة وصبر.. وهي لا تستطيع مقارعة «السينما السائدة» الآن!.. ولكن «السينما المختلفة» تبقى عبر التاريخ، بينما تذرو الرياح «السينما السائدة» وتحيلها للنسيان.. ولهذا فإن أعظم أفلام السينما الباقية في التاريخ، تنتمي لنسق «السينما المختلفة».. أفلام نُبذت وأُقصيت، ثم أستُعيدت واحتُضنت.. (خذ «المومياء»، أو «باب الحديد»، مثلاً)..
لا تقاس «السينما المختلفة» بمدى المتعة الآنية في تلقيها.. وبالتالي لا يجوز أخذ رأي المشاهد العادي بها.. آفة المشاهد العادي أنه يقيس نجاح الفيلم بمدى قدرة هذا الفيلم على إثارة الضحك، أو البكاء، أو الرعب، أو مداعبة الرغبات، وإثارة الغرائز، أو ما يشبه هذا من حواسه، أو ردود أفعاله.. وهنا يكمن تحدي «السينما المختلفة»، إذ أنها لا تعبأ بكل هذا، وتبدو كأنها تسير عكس التيار..
تزداد معاندة «السينما المختلفة» في مجتمعات تعاني من الأمية والجهل والتخلف الفكري وتدنّي الذائقة الجمالية، وفقر المعرفة البصرية.. تزداد معاندة «السينما المختلفة» في مجتمعات ذات تاريخ طويل من الثقافة الشفاهية؛ ثقافة تتعلق بالثررة والحكي.. ففي مجتمعات فقيرة بصرية، قليلة الرؤية والتأمل، نحتاج إلى وقت وصبر حتى يمكن تحويل المتلقي من مستمع (للخطب العصماء، أو الحوارات الطويلة)، ومن قارئ (للمعلقات، أو السير الشعبية).. إلى مشاهد متأمل للصورة، استقبالاً وفهماً وتأويلاً..
تزداد معاندة «السينما المختلفة» في مجتمعات تعاني من الاستبداد والديكتاتورية، مجتمعات تتعلق بالقائد الفرد الملهم، والزعيم المخلّص.. فأبناء هذه المجتمعات غالباً ما يبحثون عن البطل النجم (المُعادل الفني للزعيم القائد)، ويتعلَّقون به.. بينما «السينما المختلفة» لا تحتفي بالنجوم ولا بالأبطال..
«السينما المختلفة» هي سينما القضايا الكبرى تارة، وسينما التفاصيل الصغيرة تارة أخرى.. وقليلاً ما تكون سينما الحدوتة، والحكاية، والسرد الخيطي..
إذا كان من هدف في تناول «السينما المختلفة»، فهو إتاحة الفرصة للمشاهد لمعرفة أن هناك نمط آخر من السينما؛ نمط «يختلف» عما اعتاده من «سينما تجارية» أمريكية أو هندية أو مصرية.. وبالتالي دفع المشاهد لتلقي هذه السينما، والانتباه إلى متعة المعرفة الجمالية، والمعرفة الفكرية.. وليس المتعة الحسية المباشرة..

السبت، 17 أبريل 2010

عندما تصبح الحراثة أفضل من القتال

ربما هي المرة الأولى، على ما نعلم، التي يتم فيها إنجاز فيلم روائي فلسطيني، ولو قصير، بناء على واحدة من «الخراريف» الشعبية!.. ربما هي المرة الأولى، نقول، ونحن نعرف أن السينما الفلسطينية الجديدة، في غالبيتها الأعم تنتمي إلى سياق «سينما المؤلف»، حيث يتولى المخرج كتابة القصة والسيناريو والحوار، وهو السياق الذي بات على شيوع واسع جداً في عموم السينما العربية، طيلة ثلاثة عقود، منذ مطلع الثمانينيات، على الأقل.
واتكاء الفيلم على شيء من «الخراريف»، مستلهماً «خرفية» بعنوان «شويش شويش»، من كتاب «قول يا طير» الذي جمعه وحققه الأستاذ «شريف كناعنة»، لا يلهينا عن حقيقة أن تحقيق هذا الفيلم، إنما هو في النهاية نتاج مسيرة طويلة، بدأت عام 2007، بالفوز في مسابقة السيناريو، وبالتالي حصول مخرجه على منحة إنتاج جزئية، ومشروطة، اقتضت خضوع السيناريو لعمليات تطوير، بإشراف المخرج ميشيل خليفي، عبر «ورشة كتابة السيناريو»، تلك التي تمت باعتبارها جزءاً من «برنامج التدريب»، في إطار «المشروع الفلسطيني للمرئي المسموع»، الذي تقوم به «مؤسسة عبد المحسن قطان»، بالتعاون مع «الاتحاد الأوروبي/ الشراكة من أجل السلام»، و«القنصلية الفرنسية العامة في القدس».
تحقق فيلم «شويش شويش» عام 2008، وكان علينا الانتظار وقتاً، حتى نتمكن من مشاهدته، على الرغم أنه شارك في العديد من المهرجانات، لعل من أبرزها مشاركته في الدورة السابعة من «مهرجان البحر المتوسط للأفلام القصيرة» المنعقد في طنجة 2009.
وخلال هذه الفترة، أي عام 2009، أطل علينا الفنان الشاب «رياض دعيس»، بصور متعددة، لعل أولها وأبرزها دوره التمثيلي في فيلم «ملح هذا البحر» للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، وقيامه بالعمل معها بصفة «مدير اختيار الممثلين»، كما ظهر ممثلاً في الفيلم الروائي القصير «ليش صابرين» للمخرج الشاب مؤيد عليان.
سنعرف أن «رياض دعيس»، ينتمي إلى الجيل الجديد من الشباب الفلسطيني ممن درسوا وتعلموا وانخرطوا في ميدان العمل في مجال إنتاج وصناعة الأفلام. هو درس إنتاج الأفلام في سان فرانسيسكو. كتب وأخرج ثلاثة أفلام قصيرة، عرضت في مهرجانات دولية. يقيم في القدس، حيث يعمل في «مركز تطوير الإعلام في جامعة بيرزيت»، كما يقوم بتحقيق وثائقيات، وتقارير تلفزيونية، وأفلام إعلانية. ويعمل على تأسيس «جماعة السينما المتنقلة»، التي تقوم بعرض الأفلام في القرى والمخيمات في الضفة الغربية.
هكذا يبدو «رياض دعيس»، طموحاً إلى حدّ كبير، حاملاً بجدية لمشروع سينمائي ما، لم تتضح ملامحه بعد، ولكنه يتلمس هذه الملامح، ويحاول تكوينها، ونراه يخط دربه، على الرغم من الصعاب التي تواجه صانع الفيلم السينمائي الفلسطيني. ولعلنا لا نبالغ حين نقول إنه نموذج للسينمائي الفلسطيني الشاب المجتهد، فهو لا يكاد يترك فرصة للعمل في السينما، دون اغتنامها، بدءاً من العمل في مجال الإنتاج، والتمثيل، والتدريب، وكتابة السيناريو، وصولاً إلى الإخراج. هكذا كأنما السينما تغدو أسلوباً في الحياة، وطريقة في التعبير، وأداة مقاومة، وسبيل إثبات وجود وحضور وهوية.
يعود فيلم «شويش شويش» إلى العام 1936، حيث كانت الثورة الفلسطينية الكبرى، والاضراب الفلسطيني الكبير. يومها تحول قسط واسع من الفلاحين الفلسطينيين إلى ثوار، حملوا ما تيسّر لهم من سلاح، ونهضوا بثورتهم ضد الانتداب البريطاني، وقد رأوا المؤامرة تستكمل دوائرها، والكارثة تتحضر للوقوع.
لن نرى شيئاً من هذا على شاشة الفيلم، (كما يليق بفيلم روائي قصير)، بل سندركه حالما نرى شخصية الفلاح «حرب»، وهو يأتي إلى مكان ريفي قفر، ليس فيه إلا أسرة فلاحية فلسطينية تتكون من أم عجوز، وابنها وابنتها؛ الشابين.
يواري المجاهد بندقيته طيّ التراب، في دلالة على أن الثورة انتهت. وسندرك أنه يريد الاختباء لدى هذه الأسرة، ريثما يتمكن من العودة إلى أهله في غزة. وبمقدار ما يدل قدومه إلى هذا المكان على انتهاء الثورة، فإن هذا القجوم سيتحول غلى ضوء كاشف يسلط أشعته على هذه الأسرة والعلاقات القائمة فيما بين أفرادها الثلاثة، وأحوالهم، ومشاغلهم.
سيساعد المجاهد هذه الأسرة في أعمال فلاحة وحرث الأرض. ويبدو ماهراً، على الرغم مما يشكوه من إصابة، ربما، في ساقه الأيمن. ولن تتوانى الأم عن التعبير عن تقديرها لمجهودات «حرب»، فتقول له: «لولاك السنة الأرض كان ما انحرثت»..
الابن؛ «سرحان»، من جهته سيبدو متأففاً ليس من حضور هذا الرجل فقط، بل أيضاً من أعمال الحرث والزراعة.. حتى دابة الحراثة تبدو كأنها تعانده، فلا يفتأ يلعنها واصفاً إياها «مجنونة»، فيما تتحول الدابة ذاتها إلى «عاقلة» بين يدي المجاهد الذي تحول فلاحاً!..
الابنة؛ «نجمة»، تنطوي على شيء من الأسرار، التي يفصح عنها الفيلم على مهل. سنعرف أنها مطلقة، بعد أن تم تزويجها باستعجال، لمن لم يناسبها، ولم يحفظها. وفي اليقين أن النظرات المتبادلة مع «حرب»، مشاهد تحسسها لأنوثتها المفرطة، ستطوف بمظان المشاهدين إلى تخيلات وتوقعات، لن يذهب إليها الفيلم أبداً، بل سيتوقف عند نهاية مفاجئة، ومدهشة في آن!..
الأم؛ «أم سرحان»، وهي العنصر الأساس في الفيلم، والتي استقبلت المجاهد الراغب بالتواري لديهم، والتي منحته كل عطف، وعناية، ورعاية، وقابلته بالامتنان، على الأقل لما قام به من جهد، في إعادة إحياء الأرض، واستنقاذها من مواتها.. سنكتشف أن لديها توقاً شديداً للوقوع على زوج، يسترها آخر عمرها، وقد انقطعت بها السبل، بين ولد عاق، وابنة معقوقة.
تتداخل الأحداث، وتتشابك، وقد بيّن الفيلم خلال 21 دقيقة فقط، هي مدته الكاملة، طبيعة هذه الشخصيات، سواء بتكوينها، أو تاريخها، أو بحرمانها، ولوبانها، وبحثها المحموم عن مصير، مستقر، حلم مأمول، سلام داخلي.. أو ركضها وراء مصالح ورغبات وشهوات ومنافع!.. في توافقها وتناقضها، وتضادها..
يقوم الفيلم بحكايته على أربع شخصيات فقط، يؤديها كل من: ربى بلال، صالح بكري، حسين البرغوثي، ريم اللو.. فيما سنشهد مروراً بعيداً يؤديه الممثل محمد شعيبي. وتدور أحداث الفيلم في بؤرة واحدة، لا تعدو أن تكون بيت الأسرة الطيني المقبّب، وفسحة الأرض التي تمتلكها وتزرعها. ومع هذا التقشف الواضح، على مستوى الشخصيات والمكان والأحداث، إلا أن الفيلم محتقن بالكثير مما يمكن تلمسه، وملاحظته، والحديث عنه.
ننتبه إلى الأداء المتمكّن الذي يتولاه الممثلون، كلٌّ في دوره المرسوم، فالفنان الشاب صالح البكري، الذي حقق حضوراً فنياً كبيراً خلال السنتين الماضيتين، عبر العديد من الأفلام الفلسطينية والإسرائيلية («ملح هذا البحر» للمخرجة آن ماري جاسر، «الزمن الباقي» للمخرج إيليا سليمان، «زيارة الفرقة» للمخرج عيران كوليرين)، سيقوم هنا بإضافة أخرى إلى حضوره الفني المتميز، مستفيداً من بنيته الجسدية، وملامحه الحزينة، وعينيه الزرقاوين، وطوله الفارع، وصوته الرخيم.
والفنانة ربى حسين، السمراء ذات الجمال المحدود بمواصفات فلسطينية عادية، ذاك الطراز الذي يمكن رؤيته في المخيمات الفلسطينية، والذي لا يمكنه اعتباره فاتناً، إلا أنها استطاعت بأدائها المعتمد على جوانياتها، وتعبير عينيها، ولفتاتها، إضفاء حيوية على دورها..
وتمكنت الفنانة ريم اللو من تقديم صورة الأم الفلسطينية، بين عطفها وحنوها، وغضبها ونفورها، وانسياقها وراء أوهامها، بأداء متوازن.. فيما لم يكن الفنان حسين البرغوثي أقل مما هو مطلوب منه، منفراً من سلوكه، وتصرفاته، وطبيعة علاقاته المزعجة سواء مع والدته، وأخته، وحتى حرب، على الرغم من رقة ملامحه، وطراوة بنيته.
ويلفت النظر في الفيلم براعة التصوير، وذكاء الكاميرا، ونشاطها وهي تدور في المكان، وتلتقط التفاصيل الدالة على ما لم يقله الفيلم. سنرى أن المخرج يعتمد كثيراً على اللقطات الواسعة البانورامية، ربما ليذكرنا باتساع المكان وخوائه، وانغلاقه رغم ذاك على شخصيات الفيلم المحدودة، التي يضيق عالمها الخارجي كما عالمها الداخلي.
وإذ ينتقل إلى اللقطات القريبة، فإنما في لحظات الرغبة في التأكيد على النبرات، وردود الأفعال، والتفاصيل المعبرة. كما في مشهد فزع المجاهد «حرب» من صوت طائرة بريطانية تعبر الأجواء.. عندها، لن نرى الطائرة، لكننا سنقترب مع الكاميرا إلى وجهه لندرك مدى الذعر الذي دبَّته في أوصاله.. يتلو ذلك سخرية «سرحان»، الواقف إلى أعلى صخرة، واصفاً إياه بالمجنون.
وعلى شريط الصوت، سيعمد المخرج إلى توظيف ما نسمع بشكل متناغم مع ما نراه. ففي مشهد قدوم المجاهد هارباً إلى هذا المكان، نسمع نباح كلاب.. وسيكون الصوت كافياً خلال مرور الطائرة، فيما يتعالى عواء الذئاب أو الضباع، وقد تُركت الأم ليلاً في مكان قفر، لا تملك حولاً، ولا طولاً، إلا أن تصرخ: «لا تترك أمك للضباع»!..
وفي كل حال، يمكن للمرء إبداء بعض الملاحظات على الفيلم، أو الحكاية ذاتها، مع أنها «خريفة» فلسطينية، ربما أبرزها، من الناحية الاجتماعية، موقف الابن «سرحان» تجاه والدته، خاصة عندما يقول عنها بأنها «عجوز مستجوزة»!.. ومن الناحية السياسية الوطنية، ذاك الموقف عندما تاتي «نجمة» إلى المجاهد «حرب» الذي تحول فلاحاً لديهم، فتسأله: «أنو أحسن: طخ النار وإلا الحراثة؟..»، فما يكون من «حرب» إلا الإجابة: «الحراثة أحسن»!.. ليبقي قولنا عالقاً في حلقنا: نعم الحراثة أحسن.. ولكن ليس والبلاد محتلة!..

الخميس، 4 مارس 2010

في «إطلاق النار على فيل»: قتل الفلسطينيين الذي لا يخيب!..

لا تكتفي السينما التسجيلية، والأفلام الوثائقية، بالتصاقها العميق بالواقع والقضايا الحقيقية على تنوعها وغناها، بل أنها تفصح بشكل مميز، أولاً، عن علاقة صنّاعها بالواقع والقضايا التي تهمّ الناس. فمع مشاهدة هذه السينما سرعان ما تنكشف المرجعية التي يتكئ إليها صانع الوثائقي، والموقف الذي يتخذه، والقضية التي يتبناها، حتى ليبدو الفيلم الوثائقي غالباً رسالة ذات حمولات ومرجعيات ثقافية سياسية، ورؤى فكرية، وانتماءً، وانحيازاً صريحاً.
هكذا نجد أنفسنا، وربما أمام كل فيلم وثائقي، نطلّ على حياة صانعه، خاصة عندما يكون فيما حقّقه شيء من المغامرة والمخاطرة، تلك التي يمكن أن تصل إلى ما يهدد سلامة صانعه، وأمنه، إن لم نقل حياته!..
لن يبتعد فيلم «إطلاق النار على فيل»، للإسباني إلبرتو آرثي، عن ذلك، بل أنه يكاد يكون نموذجاً مثالياً لما قدمناه كله، إذ أن هذا الطبيب الإسباني الشاب، رفض مغادرة قطاع غزة، حتى في الوقت الذي كان الخطر الداهم يقترب من حافة الانفجار، بل إنه آثر برفقة مجموعة من المتطوعين الدوليين، البقاء مع الفلسطينيين في قطاعهم المحاصر، والمُهدَّد بعدوان واسع، كما كانت الأمور تنبئ، ولم تكذب!..
وعلى الرغم من أن هذا، وبشكل منطقي، لن يكون عاملاً جوهرياً في مشاهدة الفيلم، وتقديره، أو تقييمه ونقده، ولكن من الضروري الانتباه إلى أن الأمر مع هذا الفيلم هو أبعد من مجرد الاهتمام بصناعة وثائقي، ليصل إلى مستوى الرسالة، والدعوة لعمل تطوعي ذي أفق عالمي، ينشد حشد الدعم والتأييد، وربما الحماية، للفلسطينيين، خاصة وأن هذا الفيلم، وعلى مدى 113 دقيقة، لن يقترب أبداً من الخريطة الفصائلية، أو الحزبية، أو السياسية، في قطاع غزة، ولا من التنازع، أو الجدل، الدائر هناك، بين هذا الفصيل أو ذاك، وهذه الجهة أو تلك، بل إنه سيركز حديثه جلّه على الفلسطينيين المدنيين البسطاء العزّل، والمهددين بالقتل في كل لحظة، بقصف جوي أو بحري.. منظَّم، أو عشوائي.
«إطلاق النار على فيل»، هو دون أدنى شك، كان من أبرز الأفلام التسجيلية التي عرضها مهرجان دبي السينمائي الدولي السادس 2009، بل وأكثرها طزاجة وراهنية، ليس فقط لأنه لا يتعامل مع قضية قطاع غزة باعتباره تفصيلاً إخبارياً، أو منجماً للتقارير التلفزيونية، بل لأنه أصلاً يقدم صورة حيّة نابضة؛ صورة حيّة وحيوية وواقعية من تفاصيل الحياة اليومية في قطاع غزة، إبان «عملية الرصاص المصبوب».
يبدأ الفيلم بلقطة قد تبدو خارج الحدث، ولكنها لقطة ذات دلالة ذكية، إذ تنفتح الشاشة مباشرة على أحدهم وهو يقوم بتنظيف عدسة الكاميرا.. وكأنما الفيلم بذلك يفتتح حديثه بأهمية توفر «العدسة النظيفة»، أو «العدسة الصافية»، التي عليها أن تلعب دور «العين المفتوحة»، أو «عين الحقيقة»، وهي التي ستكون بوابتنا للإطلالة الواضحة على «حقيقة» ما جرى ويجري وسيجري أمام عين الكاميرا/ عين الحقيقة/ عين المتلقي.
وسنكتشف في النهاية أن المخرج، وربما اقتداء بهذا المنهج؛ منهج «سينما الحقيقة»، عمد إلى ترك الكثير من المشاهد تتراسل على الشاشة دون الكثير من المونتاج، حتى يغدو الكثير مما نراه، في الفيلم، بمثابة «وقائع يومية» خلال حرب ضارية، تشنها إسرائيل على كل ما في قطاع غزة من بشر وحجر، فلا تكاد تبقي ولا تذر، لينتهي الفيلم مع ألسنة اللهب المتعالية، وهي تلتهم مخازن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، تلك المخازن التي لا تحتوي إلا على أغذية وأدوية وأغطية، يتأسَّف موظفو الوكالة الدولية، قبل الفلسطينيين على ترميدها على هذا النحو.
ولأن الفيلم يبغي بوضوح أن يكون رسالة، فهو لا يتردد أولاً في تقديم نص طويل، يقول كتابة على صفحة الشاشة: «منذ أربعة عقود يرزح قطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي. ومنذ يناير 2006، يجثم القطاع في قبضة حصار مشدد، إزاء قرابة 1.5 مليون نسمة، يحتاجون لأدنى مقومات الحياة الإنسانية. في 20/12/2008 انتهت الهدنة بين إسرائيل وحماس. وأغلقت إسرائيل الدروب أمام وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان. ومع ذلك أمكن بتعاون بين قطاع غزة ومنظمات دولية إقامة هيئات لمراقبة حقوق الإنسان. ما نراه هو جزء مما أمكن مراقبته فيما بين 25/12/2008، و16/1/2009».
ننتبه، فنجد المخرج قد أصرَّ على تقديم المعلومة التاريخية، لمن لا يعرف، مترابطة مع فعل «المراقبة». ونعرف، كما يعرف كثيرون، أن فعل «المراقبة» هو ركيزة أساس في «سينما الحقيقة»، والكاميرا/ العين. ليس الأمر مجرد «تلصص»، فالكاميرا المراقبة تستعرض التفاصيل، وتنظر في الوجوه، وتستنطق الناس، وتسجل الآراء، وتلاحق ردود الأفعال، وتحايث السياقات.. وهو ما عمد إليه فيلم «إطلاق نار على فيل».
ولعل هذا هو ما دفع المخرج إلى اعتماد أسلوب «العناوين»، أو «الفصول»، حتى تلك التي لا تتجاوز دقيقة ونيف أحياناً. وهذا الأسلوب معروف عند رواد السينما التسيجيلية الأوائل، خاصة عند «دزيغا فيرتوف»، مؤّسس ومطوّر هذا الاتجاه. ويبقى للمخرج الشاب ألبرتو آرثي أنه استخدم هذا الأسلوب بشكل جيد، ضمن وحدات مضمونية، منفصلة متصلة، تماماً كما «اليوميات» التي تسجلها، وهذا ما يمنح الفيلم القدرة على التجدد ما بين عنوان وآخر، أو فصل وآخر، بانتقالات سلسلة، تتكامل فيما بينها، بتوتر إحداها، وبطء تاليها، لتندغم جميعها في بنيان، يبدو أنه عرف من أين يبدأ، وأين ينتهي، ليتوقف في لحظة ذروة انسانية، مع «عارف عبد الدايم»؛ ذاك المتطوع الفلسطيني؛ أستاذ العلوم، الذي فأجأته الكاميرا بتصويرها له دون انتباه منه، فضحك لها، وهزل معها، ومدّ لسانه، وعابثها، ومن ثم، وبعد لحظة واحدة، سترينا الكاميرا إياه جثة هامدة، نالها القصف الإسرائيلي. ويقفل الفيلم نفسه تاركاً ألماً لدى المشاهدين، على الأقل إزاء وجه واحد رأوه.. فما بالك بآلاف الوجوه التي لم يروها، ولكنهم يعرفون أنها لاقت المصير نفسه؟!..
تتعدد عناوين الفيلم، وتتالى، وتتراكب: (الحصار، مزارع تحت النار، عملية الرصاص المصبوب، محمد رجيلة دليلنا، عائلة حمدان، تجميل الموتى، القبعات الزرق، الثاني من كانون ثاني/ الاجتياح الأول، مروان حموده/ سائق سيارة الإسعاف، لماذا؟، مطمور دون إسعاف، في البحث عن دليل، جنازة مدرسة الوكالة، المجتمع الدولي، خاتمة). وسيبدو للوهلة الأولى أن كل واحد من هذه العناوين، يصلح أن يكون فيلماً وثائقياً مستقلاً بذاته، ولكن ما جمع بينها في إطار هذا الفيلم، لا يعدو أن يكون الزمان: (زمان العدوان الإسرائيلي 2006)، والمكان: (قطاع غزة)، والضحية: (الفلسطينيون).
وعلى الرغم من أن اتباع أسلوب المراقبة، وطريقة اليوميات، مع إدراج العناوين والفصول، منع عن الفيلم امتلاك سمة التكثيف والاختزال، والمرور على لحظات هبوط في الايقاع، دون النجاة منها، خاصة في لحظات الانتظار، والوقوف أمام الأبواب، وفي الممرات، وممارسة بعض التفاصيل الحياتية، كالأكل والشراب، وتبادل المكالمات الهاتفية المطولة، والجولان في المكان، إلا أن الفيلم بقي مخلصاً لأسلوبه الفني، كما لقضيته، وشاء أن يعزّزه بمجموعة من المداخلات المطولة، أو الصراخات الغاضبة، التي لم تضف إلى الفيلم الكثير، على الأقل لأنها لم تأت بالجديد، أو المختلف، أو المتميز، أو حتى المثير!..
ومع ذلك، فإن أسلوب المراقبة ذاته، نجا بالفيلم من الوقوع في مغبة التقارير التلفزيونية، التي اعتاد العالم على مشاهدتها، وسمح للفيلم النجاح بإلتقاط الكثير من التفاصيل، في فيض «عملية الرصاص المصبوب»، التي انهمرت حمماً قاتلة على رؤوس الفلسطينيين. ولن يجد الفتى الفلسطيني «محمد رجيلة»، الشريك الأساس في صناعة هذا الوثائقي، بما يفيض عن دور «الدليل»، إلا القول: «أنا في الرابعة والعشرين، وأحلم أن أعيش حياة عادية هنا في قطاع غزة. لا أعرف ماذا يريدون مني؟.. أنا لست حماس.. وكثيرون ليسوا كذلك.. ماذا عن الناس العاديين؟!.. كل ما أريده لهؤلاء أن يعيشوا بسلام وأمن وكرامة.. على العالم أن يفعل شيئاً لوقف هذا»..
يدرك الأسباني ألبرتو آرثي أن العالم لن يفعل شيئاً، على الأقل إذا لم يقم أحد بفتح عينيه على حقيقة ما يجري، وإذا لم يقم بهزّه من كتفيه، ولو بصدمة، لعله يستيقظ، وينتبه، ويرى.. خاصة وأنه مع الانهمار الكبير للصور، بات الأمر كما لو أن الأحاسيس تبلدت، والمشاعر تجمدت.. وكأنما صار من العادي في هذا العالم رؤية مشاهد القتل، دون أدنى ردود أفعال تليق بالدم المراق، وإزهاق الأرواح.. وهكذا لم يعتن الفيلم بإظهار الأشلاء الممزقة، أو الجثث المتناثرة، بل لعله أراد من خلال الطفولة، على الأقل، خاصة مع العنوان أو الفصل الخامس: «عائلة حمدان»، عندما يتم إسعاف جرحى، من أطفال وبنات صغيرات.. ولكنهم يسقطكون صرعى، الواحد تلو الآخر..
جثة طفل، ربما في العاشرة من عمره. مات وعيناه مفتوحتان.. يلفونه بالكفن.. طفلة أخرى، ربما في الرابعة من العمر، تموت بينما الأطباء يحاولون إنقاذها أمام عين الكاميرا.. الصاروخ أحدث انفجاراً داخلياً في أحشائها.. يكتبون اسمها على الكفن الأبيض «لمى طلال حمدان». كانت تلعب هي وأخوتها، أمام بيتهم، عندما جاءهم الصاروخ القاتل. انتهى الأمر بها ممددة على رفّ في براد الموتى بجانب أخيها..
«يتوهم الاسرائيليون أنهم بالمزيد من القصف يسكتون الناس.. الصحيح أن المزيد من القصف يدفع الناس للمقاومة وإنتاج سبلها المتعددة».. يصرح أحد الفلسطينيين.. فيما لا يجد آخر سوى سؤال الإسرائيليين: «كم من الموتى تريدون في هذه البلاد حتى يتوقف القصف»؟.. ويقيناً أنهم ما سمعوه.. ضجيج شهوة القتل أعلى!..

السبت، 20 فبراير 2010

كم طبيباً نفسياً تحتاج غزة؟..


حقاً.. كم طبيباً نفسياً تحتاج غزة؟..

ربما، سؤال من هذا النوع لم يخطر ببال الكثير، حتى وهو يتابع سيرة هذه المدينة/ القطاع، وهي تتحوّل من يد إلى أخرى، ومن سلطة إلى غيرها، في انتقالاتها العنيفة ما بين الرعاية المصرية والاحتلال الاسرائيلي، من النكبة إلى النكسة، وما بين السلطة الفلسطينية وسيطرة حماس، من فيض الانتفاضة الشعبية إلى سطوة الكتائب المسلحة، وما شهدته خلال ذلك من انتفاضات وهبات وثورات وتجارب باهظة الأثمان..

كم طبيباً نفسياً تحتاج غزة؟..

هل خطر هذا السؤال، أو هل استدعته الصور، وهي تتوالى بكل ما فيها من مآس وفواجع، لم تفلت صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى؟.. أليس من حقّ غزة، ومن واجبنا، في الوقت نفسه، أن نتأمل في هذه الحالة المأساوية المستمرة، في مسلسل درامي يبدو أنه لن ينتهي، ويمضي من حلقة إلى أخرى، أشد مرارة؟..

تحضر غزة، مدينة وقطاعاً، مخيماً ومعسكراً وبلدات، على هيئة مأساة دائماً!.. تملأ الأسماع بصوت نواحها على العابرين منها، قسراً، إلى الموت الزؤام، قبل أن يتمكنوا من العبور إلى مساحة أمان، إلى لقمة خبز، أو حبة دواء.. وتملأ العيون بصورة شظاياها، وقد وصلها صاروخ قاتل، فقطَّع أوصال أبنية، ونبش أحشاء أرض، وأزهق أرواح بشر، قبل أن تصلها يد مساعدة، أو مواساة..

وغزة التي أهدت العالم، بل العرب والفلسطينيين أنفسهم، دروسها المبدعة في الصمود، في الثورة والانتفاضة الشعبية، في المقاومة والكفاح المسلح، وفي الصبر والتضحية، قبل ذلك وخلاله وبعده.. غزة هذه، لم يبدُ أن أحداً كثيراً سأل نفسه، على الأقل، عن الآثار النفسية والاجتماعية، التي لا بد أن تتوالد، بشكل منطقي وموضوعي، نتيجة كل هذا العنف المسكوب على رأسها، من الجهات جميعها، والأطراف كلها.. (في الحقيقة، لن ننكر هنا أفلاماً مبكرة، ونادرة، في هذا المجال، مثل فيلم «الأيدي الصغيرة» لعبد السلام شحادة).

كيف يمكن لهذه المدينة أن تمضي ستين عاماً، ويزيد، مثقلة الكاهلين، بكل ما تهيأ له من مآس، ولا ننتبه إلى الحقيقة الراسخة، والمتمثلة، في أن للعنف ضحاياه غير المنظورين، أولئك الذين قد ينجون من القتل والتدمير، ويبقون على قيد سجلات الأحياء، يروحون ويجيئون، ولكنهم يحملون في دواخلهم آثاراً لا تقل وجعاً عن الجراح النازفة؟..

هل فكرنا، مثلاً، بحال تلك الفتاة، التي ناحت مفجوعة على أفراد أسرتها القتلى أمام ناظريها، على حافة الشطّ، في مشهد جارح، سرعان ما طواه العالم، وأرسله إلى الأرشيف؟.. هل تساءلنا عن حال ذاك الرجل الذي فقد أسرته بضربة صاروخ واحدة، قبل أن تطفئ طفلته شمعة عيد ميلادها؟.. أو هل تأملنا في حال ذاك الوالد، الذي قُتل ابنه بين يديه، في بث حيّ على الهواء مباشرة، رصاصة رصاصة؟..

وهل فكّر أحدنا بحالة الزوجة، أو الأم، التي عادت بعد انتهاء مراسيم الجنازات، لتعيد ترتيب أشياء من فقدت: دفاتر ابنها وكراساته وكرة اللعب، ووردات ابنتها وأنشوطاتها وآخر ما رسمت على دفاترها، وما تبقى من ثياب زوجها وأغراضه، التي نثرها قبل الرحيل.. وهي التي ستنتبه، كل صباح، إلى النقص الحاصل في عدد كاسات الشاي، على صينية فطور الصباح المتقشفة؟..

ترى من قال إن ذاك الفدائي، أو المقاتل، أو المجاهد، الذي عاد إلى قواعده سالماً (كما اعتادت البيانات البالغة الرصانة)، سوف يعود هو نفسه، معافى، وكأنه كان في مشوار مسائي على حافة البحر؟.. أو في رفقة أليفة وصحبة لطيفة في مشوار مسائي؟.. ومن قال إن البيانات البالغة الإنشاء، تستطيع مهما استطالت، أن تغطي عري النفس أمام أزماتها، التي تعرف كيف تنفذ إلى روح الإنسان المقهور، وتطل برأسها المشاغب بشكل مباغت؟..


من السويد، يأتي المخرج بيا هولمكويست، إلى غزة، ليجيب عن ذلك، وهو الذي اعتاد منذ سنوات أن يتناول القضية الفلسطينية من جوانب مختلفة، فينسج فيلماً وثائقياً تسجيلياً طويلاً جديداً، كان عرضه الأول، ضمن تظاهرة «60 سنة على تقسيم فلسطين»، ضمن فعاليات "مهرجان الشرق الأوسط الدولي الثاني" (مهرجان أبوظبي السينمائي) 2008، والتي نظمها المخرج العراقي الكبير قيس الزبيدي..

وكما اعتاد المخرج بيا هولمكويست، في أفلامه السابقة، مثل «معركة في القدس» 1980، و«غيتو غزة» 1984، و«أسد من غزة» 1996، التطرق إلى موضوعات لافتة الانتباه في ذكائها وحذاقتها، والذاهبة إلى جوهر القضية الفلسطينية بمستوياتها السياسية والنفسية الاجتماعية، يذهب هاهنا في الفيلم التسجيلي الطويل (90 دقيقة)، المعنون «فرويد الشاب في غزة»، عبر حالة فريدة، إلى الكشف عن الكثير من الحالات غير الفريدة، تلك التي لا تراها نشرات الأخبار، ولا تكتبها التقارير الصحفية، ولا تبصرها الأعين المسطحة التي، ربتها الفضائيات، فاعتادت عدم تكليف نفسها مهام الغوص في الأعماق..

هكذا يغدو الفيلم السينمائي، كما ينبغي دائماً، بمثابة العين الخبيرة، التي تذهب في نحو يغاير مطاردة الحدث، وتصوير الخبر العاجل، ليقف ويتأمل ويدرك.. ولن نبالغ إذا قلنا إن تلك هي مهمة السينما الحقيقية، خاصة في زمن الخبر العاجل، والبث المباشر.. إنها مهمة السينما في أن تربي العين الخبيرة، القادرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء، والتقاط حقيقتها المتوارية خلف حجب المتحرك الصاخب، تلك الحجب التي سرعان ما تتهشم أمام لحظة مصارحة.. وفي أن تحرض الوعي للتفكير والتأمل والمعرفة..

«فرويد الشاب في غزة»، هو الشاب الفلسطيني «عايد»، السيكولوجي، المتخصص في علاج الحالات النفسية، الباحث عن دور يقوم به تجاه مجتمعه وقضيته، بعيداً عن ضجيج السياسة، إيقاع العسكر، وبسببهما أولاً وتالياً.. وإذا كان من النادر، في المجتمعات العربية المستقرة عموماً، أن ينتشر مثل هذا الاختصاص العلمي، فإنه سيكون أكثر ندرة في واقع ملث غزة، المدينة والقطاع، التي تعيش على فوهة بركان من القلق والتوتر، من ناحية، وفي قبضة الحاجة اليومية الملحة، والجراحات الدامية، من ناحية أخرى، تلك التي يغدو معها الحديث عن طب أو علاج نفسي، شيئاً من الترف!..

من هنا كان من الطبيعي أن ينفر والده ساعة سماعه أن ابنه سوف يتخصص في هذا المجال، فيصبح الطبيب الذي لن يركض وراء الجرحى ليضمد جراحهم، أو خلف الشهداء يلملم بقاياهم.. بل ينشغل بالاختصاص الذي يسعى لالتقاط غور النفس، والتفتيش في ثناياها، ومحاولة تخليص المعذبين الصامتين مما يعانونه قيد البوح أو الكشف..


سيلتقط الشاب عايد، وهو الذي يبدو بكل السلاسة والبساطة، ولكن بالتصميم كله، الحالات النفسية التي يصادفها، أو تقصده بعد تردد، ويخضعها للعلاج، على الرغم من الصدود الذي واجهه منذ البداية، ليس فقط لناحية عدم اقتناع والده بهذا العمل، أو لناحية الشكوك والارتيابات، التي تراود الجميع في مجتمع مثل غزة، في أن عمله ذو جدوى حقيقية، بل أساساً لأن ناسنا لم يعتادوا بعد الجلوس والبوح بما في مكنونات النفس.. ومع ذلك سوف نرى الشاب عايد، وهو يقابل حالات متعددة من المرضى أمثال: إيناس، حنان، مايسة، عبد.. من ضحايا العنف والقهر، ومن خلال جلسات العلاج، نتعرف معه على الكثير من وقائع عالم غزة، في نماذجها المتجسدة أمامنا..

والفيلم الذي استغرق من مخرجه ثلاث سنوات من التصوير، كان لا بد له أن يمر على أحداث دامية حصلت خلال سنوات التصوير، مثل غارة إسرائيلية يونيو 2006، واجتياح اسرائيل لمنطقة بيت حانون في العام نفسه، قبل أن يصل إلى الاشتباكات الأولى ما بين حركتي حماس وفتح، قبل أن تصل الأمور بينهما إلى الحسم العسكري، وما تضمنه من مشاهد بالغة الأسى!.. وهو مع ذلك لن يجعل من هذا كله موضوعه الأساس، بل سيمر بها باعتبارها محطات تولد المزيد من الحالات المحتاجة للعلاج النفسي..

والشاب عايد/ فرويد غزة، لن يعيش منقطعاً عن الواقع المحيط به، ولا ناجياً من مؤثراته.. إنه في لحظات عديدة من الفيلم يتجول في شوارع غزة، حاملاً حقيبته، وممتطياً أحلامه التي تكاد تكون أوهامه، فيمرّ على مجريات الحال السياسية الغزاوية، وعلى تفاعلات الشارع السياسي، في تناقض شعاراته، وأنقاضها..

ويبلغ الفيلم ذروة درامية، عندما نجد الشاب عايد، وقد سقط هو نفسه في قبضة الاحباط واليأس، وبات كأنه يحتاج لمن يعالجه، قبل أن ينهض مرة أخرى، ليجد نفسه في مواجهة مهمة أكثر صعوبة.. في لحظة ما سنرى الشاب عايد لا يختلف كثيراً عن الحالات التي يريد إخضاعها للعلاج..

ينتبه الفيلم إلى موضوع العنف، وأثره على المجاهدين الأشاوس الذين يبدون على هيئة مجموعة من مجاهدي حماس، الباحثين عن العلاج النفسي، ولكن دون موسيقى، ودونما إيهام.. كما ينتبه إلى العنف وآثاره على الأطفال، ويرصد شيئاً من ذلك من خلال رسوم الأطفال، ويحاول قراءة الوضعية النفسية التي تتكون لدى الأطفال، وتعيد تشكيلهم.. ونرى الشاب عايد وهو يحاول إيجاد الحلول لهذه المشكلات.. خاصة وهو يعبر أن أمنيته الكبرى في النهاية تتمثل في أن تشرق شمس جديدة.. وأن الحل سيكون، ولكن على إيدي الاطفال..

«الشاب فرويد في غزة» إضافة جديدة وحاذقة للمخرج السويدي بيا هولمكويست، تحتاجها القضية الفلسطينية، في وقت تشوشها فعائل الفلسطينيين أنفسهم، وارتكاباتهم الفظيعة، التي تثير السؤال مجدداً:

كم طبيباً نفسياً تحتاج غزة؟..

الثلاثاء، 2 فبراير 2010

إنفاق حياة، في حياة الأنفاق!..

على الرغم من أنها تكاد تكون اللفظة الأكثر شيوعاً في كل ما يجري الآن على الساحة الفلسطينية، سواء لجهة علاقة قطاع غزة بالعالم، أو المشكلات التي تثيرها مع الجارة؛ الشقيقة مصر، أو لناحية الشكوى الدائمة لدولة الإحتلال منها، فإن «الأنفاق»، لم تجد لها مكاناً ملحوظاً بعد، في عموم الإنتاج السينمائي الفلسطيني، سواء تفسيراً أو تحليلاً، أو تبريراً، وحتى دفاعاً أو نقداً أو رفضاً، وهو أمر يثير الاستغراب حقاً!..
ليست «الأنفاق» سراً، أو لم تعد كذلك، ولا هي قيد الشك، أو الانكار، ولو للحظة، ومن أيّ أحد. فالجميع يتفق على وجودها، وتعددها، وتنوعها، وتشابكها.. وإن كانوا لا يتفقون على أهميتها وضرورتها وإيجابياتها، أو سلبيتها وخطورتها، ومقدار وشكل تأثيرها على الحياة في قطاع غزة، الذي يبدو ظناً وعياناً، على السواء، أنه يعاني من حصارات متعددة ومتراكبة.
يعرف الفلسطينيون «الأنفاق»، ويستخدمونها لأغراض شتى، ويعرف المصريون «الأنفاق»، ويخططون لقطع الطريق أمامها، إن لم يكن بقناة مائية، فعلى الأقل بجدار فولاذي ينغرس في الأرض عميقاً، ويعرف الإسرائيليون «الأنفاق»، ولا يكلّون ولا يملّون من قصفها، مرة بعد أخرى، إن لم يكن اجتياحاً بعد آخر..
كأن الجميع يعرفون «الأنفاق»، تماماً في الوقت الذي يبدو أن لا أحد يعرف عنها شيئاً.. كأنما هي حاضر غائب.. فلا هي تتعالى أمام الأنظار، كما «الجدار» الفاصل، مثلاً، والذي نال نصيبه من أفلام فلسطينية وإسرائيلية، فضلاً عن أجنبية. ولا هي تتمطى ساعات طويلة أما طوابير المنتظرين، كما «المعابر»، والتي كان لها حصتها من أفلام أخرى. ولا هي تنكفئ خلف أسوارها الصارمة، كما «المعتقلات»، التي يبدو أنها ستبقى المعادل المزمن للنكبة، وما وّلدته، وتولِّده من نكبات تالية، ولها نصيبها على ضفتي الخندق!..
وحدها «الأنفاق»، تبقى سيرة محمودة محروسة، من قبل طرف، ومرجومة ملعونة، من قبل أطراف.. ولكن ليس ثمة من يجوس في ثنايا، وينقل لنا أدنى صور عن تفاصيل حياة تدور في تلافيفها.. فقط ستأتينا أخبار متناثرة ناجزة؛ كأن نعرف أن هناك من مرّ عبرها، ومنهم أعلام وسياسيون وحزبيون، عرب وأجانب. أو نعرف أن هناك ما يمرّ خلالها، ليس سلاحاً أو غذاء أو دواء أو دواب، فقط، على ما يقول مناصروها، بل أيضاً دخان ومشروبات روحية ومخدرات وحلى ومجوهرات وسقط متاع، من هواتف خليوية وأثاث وملابس وسيارات فارهة، كما يقول معارضوها!..
وعلى الرغم من أن هناك من ينظر إلى «الأنفاق»، باعتبارها اختراعاً معيشياً لاستجرار أسباب الحياة ومستلزماتها، طالما انغلقت المعابر، وسُدّت الدروب.. فثمة الكثير من ينقلها إلى مسرح السياسة، والسيادة الوطنية، والأمن القومي، كما لدى مصر، من جهة، وإلى حيثيات شق عصا الطاعة، والخروج عن الاجماع الوطني، كما لدى السلطة الفلسطينية، من جهة أخرى، فيما تؤكد حركة حماس، من جهتها، أن هذه «الأنفاق»، شرايين مقاومة.
لن يعباً فيلم «تذكرة من عزرائيل»، للمخرج الشاب عبدالله الغول، وهو فيلم وثائقي، مدته 30 دقيقة، بكل هذا الكلام، ولا يقترب من هذه المفارقات والتناقضات، ولا يغوص في شيء من هذا الجدل.. بل يبدو أنه لا يريد سوى إمضاء وقت يجوس في أحد «الأنفاق»، واستكشاف عالمها، والتعرف على بعض من تفاصيلها، وحياتها، وحياة العاملين فيها..
هنا لن نرى أياً ممن يمرون عبر «الأنفاق»، ولا شيئاً مما يتمّ تمريره عبرها.. هنا سنرى أولئك الذين يقومون بحفرها، ونتعرف إليهم، ونعيش معهم، وفق سيناريو تلقائي، يبدأ معهم انطلاقاً من لحظة صباحية، حيث نرى سيارة متهالكة، وشباب يلملمون بعضهم البعض.. يأتون من حارات في مدينة، ومن زواريب في مخيم.. من بيوت إسمنتية أنيقة البناء، ومن غرف متهالكة، بأسقف من صفيح.. يتنادون من بيوتهم، ويذهبون، كأنما هم في ورشة عمل..
الكاميرا ترافقهم في سيارتهم المتهالكة. وهم مجموعة من الشباب في مقتبل العمر، يدقون أبواب العشرينات من العمر. ما بين ضحكات ومزاح، وألفاظ لا تخلو من بذاءات الشارع.. إلى استفسارات عن واقع الحال، وآخر الأخبار؛ هل ثمة قصف إسرائيلي، أم لا!..
ننتهي إلى خيمة، سنعرف سريعاً أنها تقبع على فوهة نفق. وكما عمال ورشات البناء، يشرعون في التحضير للانغماس في أجواء العمل.. استبدال الملابس، وتجهيز الأدوات.. والكاميرا تستعرض تفاصيل سيبدو الكثير منها غريباً ومثيراً للدهشة: معدات بدائية، تم اختراعها على حافة الكهرباء، والاتصالات السلكية.. رافعات بأسلاك، تتحول إلى مصاعد تنقل الأشخاص، والأشياء، كما تتحول إلى قاطرة.. هواتف أقرب إلى «أنترفون» منزلي.. تتحول إلى أدوات تواصل، وتوجيهات.. عبوات بلاستيكية مقورة.. تصبح دلاء تنقل التراب، وما يحتاجه العاملون في الأنفاق تحت الأرض!..
تهبط الكاميرا مع العاملين.. ثمة أمتار هابطة محمية بجدران استنادية من أخشاب متهالكة.. نهبط إلى قاع النفق، حيث يبدأ العمل اليومي، الذي يبدو أنهم اعتادوه، وعرفوه، وخبروه.. ضجيج محركات.. صراخ ونداءات متبادلة.. طقوس ومفردات تنتمي إلى عالم خاص.. والكاميرا تستمر في المسير مع العاملين في إلتواءات النفق، وامتداداته، متوغلاً تحت التراب.. المسافات تتالى، واللهاث يعلو..
يبدو أن الشباب ماهرون في استخدام معداتهم، على بدائيتها، ومحترفون في إجراءات العمل، ربما لاعتيادهم على ممارسته.. نرى العمال وهم يقومون بالحفر، يستخدمون المجارف القصيرة الذراع، وأدوات الثقب التي يستخدمها الحدادون والنجارون، عادة لثقب الحديد أو الخشب، ولكنها هناك للحفر. يملئون الدلاء بالتراب، ويقطرونها عبر النفق، قبل سحبها إلى أعلى، ونثرها في جوانب المكان، بالقرب من الخيام، وبين البيوت.
من الواضح أن هذا اليوم مخصص للاحتفاء بحضور الكاميرا، والمخرج.. ففي اللحظة التي يصلون فيها إلى عمق النفق، وحيث ينبغي أن يستمر العمل بالحفر، وإزاحة التراب، ونقله إلى الخارج.. وبعد تجربة عملية لكيفية القيام بالحفر، واستخدام الأدوات، تنعقد جلسة حوارية، همّها الأساس هو الكشف عن جوانب هامة، وتفاصيل غنية، من وقائع حياة يتم إنفاقها في «الأنفاق».
أحد العاملين، يشير إلى فتحة في جدار النفق، ويقول، هنا تمّ الاصطدام مع «خط» آخر، بما يعني نفق آخر، لنعلم أن الأنفاق متقاربة، بحيث تشكل شبكة، تتداخل وتنفتح على بعضها البعض، أحياناً، وهو الأمر الذي يمكن أن يتحول إلى خطر على حياة العاملين.
ويشرح عامل آخر عن «القادوح»، وهو ما كان الإسرائيليون، يغرسونه في الأرض، حيث يعمدون إلى الحفر بعمق يتراوح بين 25 – 30 متراً، ومن ثم يضعون متفجراً لخلخلة الرمل، الذي سرعان ما ينهار على العاملين في «الأنفاق»، ويقتلهم تحت الردم.. ويؤكد أن «القادوح»، هو أخطر ما يواجه العمال في «الأنفاق»، وأن العمال يقومون بوضع الخشب، تلافياً لانهيار الرمل عليهم..
ومع تأكيدهم، جميعاً، على أن من يعمل في حفر النفق، إنما هو يخاطر بحياته يومياً، و«يقطع تذكرة من عزرائيل»، إذ لا يعرف هل سيخرج منه أم لا!.. لن يكون من الغريب قولهم إنهم إنما يعملون في «الأنفاق»، بسبب الحاجة، والبحث عن لقمة العيش، خاصة وأن فرص العمل معدومة، ولا خيار متاحاً، سوى في هذا العمل القاتل.. «هذه الشغلة كلها موت».. يقول أحدهم. وهذا العمل المحفوف بالموت، لا يمنح كبير العمال أكثر من 30 دولار، لقاء حفر المتر الواحد، ولا يمنح أمهر العمال أكثر من 120 شيكل في اليوم، بينما لا يزيد أجر العامل المساعد عن 70 شيكل في اليوم.
صورة أخرى، ومغايرة، يقدمها هذا الفيلم الوثائقي؛ صورة تقترب من واقع الناس، وحياتهم، بعيداً عن القول السياسي، وجدالاته، وبعيداً عن الشعارات، ومقولاتها.. في محاولة تسعى إلى كشف المسافة الفاجعة بين هذا وذاك، ومرارة أن يستل البعض لقمتهم ممهورة بخاتم «ملك الموت»!..

الأحد، 24 يناير 2010

أفلام خليجية أطلقها مهرجان دبي السينمائي الدولي:

وفي الخليج فقر وفراق وغياب ودموع.. وأفلام تحكي عن هذا!..

أما وقد أصدر مهرجان دبي السينمائي الدولي، في دورته الخامسة عام 2008، قرصاً يتضمن مجموعة من الأفلام الإماراتية، فسيبدو من المنطقي تماماً، واستمراراً لاستراتيجيته، أن يصدر في دورته السادسة عام 2009، قرصاً آخر يتضمن، هذه المرة، مجموعة أفلام خليجية، بما يوحي برغبة هذا المهرجان في تأكيد انتسابه للسينما الخليجية أولاً، وحرصه على رعايتها ودعمها وإطلاقها.. على الرغم من نزوعه الدولي.
ثمانية أفلام ستأتينا، عبر هذا القرص، قادمة، أو مُنتقاة باسم «أفلام من الخليج»، من: مملكة البحرين، سلطنة عُمان، دولة الإمارات العربية المتحدة، دولة قطر، دولة الكويت، المملكة العربية السعودية.
ومع غياب كلٍّ من العراق واليمن، سيبدو أن الأفلام المُنتقاة، إنما تنتمي في النهاية إلى بيئة «مجلس التعاون الخليجي»، حتى لا نقول «الخليج العربي»، وننتهي، دون أن ننكر حقيقة أن المتشابهات والقواسم المشتركة بين دول «مجلس التعاون الخليجي»، القادم منها هذه الأفلام، هي أكثر تقاطعاً وغنىً وثراءً، مما هي من جهة أولى، مع كل من العراق واليمن، من جهة أخرى.. ولكنه قدر الجغرافيا التي لا مفر منها، على ما يبدو!.. ولعل في استبعادهما من هذا القرص، فرصة للقاء قادم، خاص بهما.
وفضلاً عن هذا، ستبدو مسألة الانتقاء، وأحقية اختيار هذا الفيلم، واستبعاد ذاك الفيلم، أكثر تعقيداً، خاصة وأن قائمة الأفلام الخليجية طالت واستطالت، وتنوعت، وبات فيها زاد لمستزيد، إلى درجة أنه أضحى من العسير للمرء أن يضع قائمة نهائية للمنجز الفيلمي الخليجي، ما بين أفلام الهواة والشباب، وأفلام الطلبة، وأفلام المخرجين المحترفين.. وإن كانت جميعها، تقريباً، تقع في دائرة الفيلم الروائي القصير، وهو ما سنلاحظه في مجموعة الأفلام التي سيمنحنا القرص فرصة مشاهدتها، مرة بعد أخرى.

يبدأ القرص مع فيلم «غياب»، للبحريني محمد راشد بوعلي، 2008، وهو فيلم روائي قصير، مدته 11 دقيقة. يذكر أنه مأخوذ عن قصة «الوحيد لوحده»، للشاعر قاسم حداد. ولقد كتب السيناريو: حسن حداد، وهو من تمثيل: عبدالله ملك، شيماء الكسار، والفيلم مُهدى إلى ذكرى «إبراهيم عبدالرحمن بوعلي»، الأمر الذي لا يعني سوى أن الفيلم نبرة ذاتية خاصة لمخرجها، تتعالق مع وجدانه وذاكرته الشخصية، وانطلاقاً من بيئته المجتمعية، وخصوصيتها البحرينية.
في فيلم «غياب»، ثمة عجوزان في جلسة منزلية؛ هو يقرأ الجريدة، وهي تحيك في قطعة تطريز، وصوت أم كلثوم بينهما يعلو بأغنية «فات الميعاد».. ليس ثمة من حوار يدور بين العجوزين؛ المرأة والرجل.. لقد مضت بهما السنون، ولعلهما قالا كل ما يمكن لهما أن يقولاه، وهاهما في قعدة هادئة، متوثبة بانتظار من لا يبدو أنه سيأتي.. فعنوان الفيلم يفضح مضمونه!..
لحظة، ويتوهم الرجل أنه سمع قرع باب، فينطلق متثاقلاً، لعله يعثر عند الباب على الطارق.. تخيب به النظرات الواهنة التي يرسلها في الزقاق، يمنة ويسرة، ويعود لا يلوي على شيء، تاركاً الباب موارباً، لعل القادم المُنتظر يدخل فوراً، فلا حاجة به لقرع الباب..
ومن الطبيعي، من ثمَّ، أن تقوم الزوجة، المرأة العجوز بدورها، وتتثاقل بخطواتها لتتفقد الباب، والتطلع بشوق عينين متعبتين إلى الزقاق، لعله يأتي بمن ترغب، وتتمنى.. ولكنه الفراغ الذي يظلل الغياب.. إنه غياب لا نراه، ولا نعيشه، ولكننا نتلمس آثاره ووقعه على الناس الحاضرين أمامنا..

ويتلوه فيلم «بيلوه»، للعُماني عامر الرّواس، 2008، وهو فيلم روائي قصير، مدته 6 دقائق. حيث يقوم هذا الفيلم على اسم لعبة شعبية معروفة في سلطنة عمان، ويريد من خلالها التركيز على مشكلة المرأة في مجتمعاتنا الخليجية، العربية، المشرقية عموماً، إذ سرعان ما تنتقل الطفلة من ملاعب اللهو إلى قسوة الحياة. وسريعاً ما تجد نفسها تحت وطأة قوانين لا تعرف الرأفة، أو الرحمة.
من صبية في مقتبل العمر تلهو، إذ نراها ترسم خطوطها على الأرض، لتمارس لعبتها الأثيرة، يأتينا صوت يحكي حكاية هذه الصبية، والقوانين الجديدة التي تفاجئها، فتقتلعها من عالم البراءة.. ليس بلا معنى أن نرى ذلك المشهد، إذ يمر الفتى في مسار علوي، بينما الصبية تمر في مسار أدنى. إنه حديث عن الخفض الاجتماعي للمرأة في عالمنا. حتى لو كانت على حافة الحياة. أوقتل للحياة ذاتها.
أما فيلم «بنت النوخذة»، للإماراتي خالد المحمود 2008، وهو فيلم روائي قصير، مدته 17 دقيقة، فهو يحاول المزج بين الأسطورة والمخيال الشعبي، من جهة، والواقع، من جهة أخرى، لينتهي إلى ما يتماس مع حياتنا، بقوة ومباشرة.
هنا ثمة موت وفراق، ظلم وقهر، وطفل ربما في العاشرة من عمره، يراقب ما يدور حوله، ليكون شاهداً وشهيداً. كأنما هو عالم محكوم بالفقد، بالألم واللوعة، وإن كانت الأسطورة الشعبية لأبناء البحر تستجدي العدالة، من الظالم، أو من نسله؛ «بنت النوخذة»، ثاراً منه..

لن نفاجأ بوجود فيلم «بنت مريم»، للإماراتي سعيد سالمين 2008، على هذا القرص، فهو فيلم روائي قصير، مدته 27 دقيقة. كتب السيناريو: محمد حسن أحمد، ومن تمثيل: محمد إسماعيل، نيفين ماضي، رشا العبيدي، حسين المحمود.. وهو أكثر فيلم نال جوائز خلال العامين المنصرمين. ولعل ليس من المبالغة أنه لم يحصل أي فيلم روائي عربي قصير على العدد ذاته من الجوائز.
يبدأ الفيلم بنص أدبي، فيه شيء من الشعر العامي، والحكمة الشعبية: «ثوب العطش جدا أرضك قاصف، شال الحزن بإيدك طفل خايف، زاد العوق ودعواي بين النصايف، نبا غيمة فيها المطر واقف».. ولن يتوقف الفيلم عن طريقة السرد الشعري أبداً..
الفيلم يقوم على صوت صبية، في مقتبل العمر، تحكي حكايتها، تلك التي تبدأ بتزويجها برجل عجوز طاعن في السن، وربما هارب من الزمن، فيما تقول هي عن نفسها: «وأنا بعدني بنت ما شفت الدم في ثيابي».. وما بين موت زوجها «الشيبة»، وطردها لتجأ إلى قريبها «معتوق» الضرير، المتبقي من أهلها، ومأساة المرأة التي يسجنها أخوها، لإجبارها على الزواج، نخلص إلى حقيقة أنه «كل بيت فيه بنت مريم».. لا يغير من ذلك وجود الفتى الحامل لشتلة شجرة، على أمل أن تطيل عمر والدته..
سيكون موت، وسيكون فراق وألم.. والفيلم ينغلق على البداية، في بنية دائرية لا تنتهي..
ويذهب فيلم «سائق التاكسي» للقطري حافظ علي عبدالله 2004، وهوفيلم روائي قصير، مدته 19 دقيقة. كتابة: جاسن كابوس. إلى معاناة «كمال زيتوني»، وهو من سنعرف أنه فتى مغربي، ترك بلاده للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية، وسيعمل مع قلة الحيلة كسائق تاكسي على الرغم من أنه كان مهندساً في بلاده.
مع جرعة زائدة من تناول مأساة المهاجرين من بلدانهم إلى أرض الأحلام، أي الولايات المتحدة الأمريكية، وهي موضوعة ليست جديدة في السينما العربية. ومع محاولات الاستثارة للمشاعر الإنسانية، بمشاهدة الاحتفال بعيد ميلاد الطفلة في غياب والدها.. سيأتي المشهد الذي نرى فيه أميركياً يفارق أسرته للعمل في آلاسكا، ونعرف أنه سيغيب خمسة شهور عن العائلة، لندرك أن الدائرة تدور على الجميع. ويبدو كأنما يفرغ مأساة الفيلم من استثنائيتها.

ويذهب فيلم «مهملات»، للكويتي عبدالله بوشهري 2006، وهو فيلم روائي قصير، مدته 4 دقائق، إلى اتجاه آخر، إذ يبدو الفيلم على شكل لوحات متتالية، تريد الحديث عن تفكك المجتمعات الخليجية، بدءاً من المرأة الغارقة في كمالياتها، إذ نرى آسيوية تقوم بتجميل قدميها، فيما هي منشغلة بالتواصل عبر الهاتف المحمول. والرجل المنشغل بالتحرش بالنساء، ومن ثم تعاطي المخدرات، لتكون النتيجة رمي طفل رضيع، إلى جوار حاوية قمامة.
فيلم «مطر»، للسعودي عبدالله آل عياف، 2008، وهو فيلم روائي قصير، مدته 24 دقيقة، ينوس بين مأساتين أساسيتين، أولاهما لطفل فاقد لحاسة السمع، ويسعى للحصول على سماعة، تمكِّن الأصوات من التسرب لأسماعه، وثانيهما لشاب مهدد بفقد البصر، بسبب مرض السكري، دون أن يفقد رغبته بمشاهدة مباراة للنادي الذي يشجعه.
يختار المخرج السعودي عبدالله آل عياف طريقة سرد شعرية، يقدم من خلالها صورة واقعية للمجتمع السعودي، صورة لا علاقة لها بالتأكيد بكل ما عرفناه وسمعناه عن السعوديين، أو بالصورة التي قدمتها لنا وسائل الإعلام عن المجتمع السعودي، حتى تلك التي قدمها الإعلام السعودي ذاته.
الفيلم، وهو من تأليف وسيناريو ومونتاج ومكساج ومصور وموسيقى وإنتاج المخرج السعودي عبدالله آل عياف، لا يعدو أن يكون رؤية خاصة لهذا المخرج لمجتمعه، رؤية فيها اقتراب بارع من زوايا غير ملحوظة، ومن معاناة غير مرصودة، على الرغم من أنها تحتفظ بكثير من الأمل، فالطفل يصر على اللعب مع أن سماعته غرقت في المطر، والشاب المهدد بالعمى يصر على مشاهدة المباراة لا يمنعه من ذلك، حتى المطر.

يبقى أن الاختيار الأخير، الذي يقدمه لنا قرص مهرجان دبي، هو فيلم «الواقعية أفضل» للعمانيين داوود وياسر الكيومي 2008، وهو فيلم روائي قصير جداً، مدته 1 دقيقة. وفيه من التجريب الكثير..
هو عالق على حافة جرف كبير.. وآخر يصوره، ويحاول مد يد العون له، تارة، ومن ثم يرفسه، تارة أخرى.. هو يسقط.. ولكن ثمة من يقوم، من مكان آخر وبعيد، بتصويرهما والتقاط ما جرى..
هل يريد الفيلم قول إن ليس ثمة من جريمة كاملة؟.. ربما!.. هل يريد القول إن الحياة ما هي إلا متواليات من ضحية ومجرم وشاهد؟.. ربما!.. هل يريد القول إن الأمور دوال بين مجرم وآخر، والضحية تذهب إلى الهاوية.. أيضاً ربما!..
الأهم من كل هذا، أننا ننتهي بمشاهدة ثمانية أفلام خليجية، أصدرها مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته السادسة 2009، إلى أن ثمة صورة خليجية غير التي نعرف.. وأن مبدعين خليجيين يريدون قولاً مختلفاً عبر أفلامهم..

الأربعاء، 20 يناير 2010

في جديد ميشيل خليفي: «زنديق» ينفر ممن كفروا


لم يكن المخرج السينمائي الفلسطيني الكبير؛ ميشيل خليفي، بحاجة إلى هذه القسوة كلها، وهو يعود بفيلمه الجديد «زنديق»، بعد قرابة عقد من السنوات، على آخر إطلالاته السينمائية الروائية.
لا يبرر له ذلك تاريخه السينمائي العريض، وهو المخرج الذي أسّس لولادة السينما الفلسطينية الجديدة، حتى أننا كنا قد رصدنا له الجزء الأول، الأهمّ والتأسيسي من كتابنا «ثلاث علامات في السينما الفلسطينية الجديدة»؛ (دار المدى 2005)، باعتباره المخرج السينمائي الفلسطيني الذي أعلن صراحة عن وجود سينما فلسطينية خالصة، مختلفة، ومغايرة، ومفارقة؛سينما قادمة من قلب فلسطين المحتلة، وليس من الشتات، كما كانت العادة حينذاك..
ولم يكن للمخرج السينمائي الفلسطيني الكبير؛ ميشيل خليفي، أن يبصق على كل شيء، وأن يرميه طيّ النار، بدءاً من صوره القديمة، إلى مفتاحه العتيق، إلى صليبه العتيد، ليثبت لنا أنه مأفون ملعون في عالم فلسطيني، كل ما فيه يمضي إلى الدمار.
ما كان لميشيل خليفي أن يسمح لتلك الرسائل بالتدفق، من بين يديه، وعبر فيلمه، مهما بلغ به الحنق من حالٍ فلسطينية، بدت كأنما باتت تأكل نفسها، وبنيها..
سيبصق ميشيلي خليفي في البئر. وسيهزأ من تلك النبرة الدرويشية الصارخة: «أنا من هنا»، على ما فيها من نبرة التمسك بالبقاء في المكان. وسيبول على كل ما آمن، وآمنا به. وسيسكر، ويمجن.. في حفلة صارخة من جلد الذات، أكثر من نقدها. والكفر بما فيها، أكثر من التفكير بها!..
لن يقف المخرج ميشيل خليفي، على ما هو فيه من ثقافة ودراسة وعلم وخبرة، وسعة اطلاع، أتاحتها له تجربته المميزة، للتأمل المتأني، ولو لحظة واحدة، إذ أن شياطين عاصفة وأشباح هائمة تطارده، وهو يلوب لاهثاً في شوارع «الناصرة»، المدينة التي بدت أنها أقفرت من مارتها، ولم يبق ثمة من يجوس في شوارعها، سوى لصوص، وقتلة مأجورين، أو متطوعين.. وكثير من المجرمين!..
«ميشيل خليفي»؛ المخرج السينمائي الفلسطيني الكبير، والمبدع الرائد، الذي انطلقت السينما الفلسطينية الجديدة مع كاميرته أولاً وأساساً، منذ فيلمه الشهير «الذاكرة الخصبة» 1980، و«طريق النعيم» 1981، و«معلول تحتفل بدمارها» 1985، وتعرَّجت دروبه، ما بين ذروته الفنية في «عرس الجليل» 1987، ومن ثم أفلامه «نشيد الحجر» 1990، و«حكاية الجواهر الثلاث» 1994، و«الزواج المختلط في الأراضي المقدسة» 1995، انتهاءً بفيلم «الطريق 181» عام 2003، ها هو يعود مع فيلمه الروائي الطويل «زنديق» 2009، وقد أرهقته السنون، والحمل الكبير على كتفيه، والثقل الموجع في قلبه، ليبدو كأنما أراد أن يقوم بتصوير ما صارت إليه الحال الفلسطينية، بكل سوءاتها، بعد هذا الشوط.

غضب عنيف يرجّ ميشيل خليفي، فينفر، حتى بدا كأنما الغضب طار به على جناحه، فصنع فيلمه هذا من غضب. لم يشأ ميشيل خليفي أن يلتقط حكاية من الواقع الفلسطيني، من أحياء خلفية، أو من عالم سفلي، لم يعد خافياً على الكثيرين من الفلسطينيين، على الأقل كما فعل إسكندر قبطي في فيلمه «عجمي»، أو كما فعل توفيق أبو وائل في فيلمه «عطش»، فيدفع بالقول: هذا جزء من حالكم، فانظروا في أقبيتكم المعتمة!.. كما لم يشأ أن يبني حكاية من الخيال، ويحقنها بمعادلات فنية أو درامية، لتشير إلى سوءات الحال الفلسطينية، ليقول: فتشوا في ملابسكم، لعل أحدكم يعثر على شيء مما أصوّره في فيلمي، بين ثناياها!..
ميشيل خليفي، هنا، وكما شاء له من الهوى، يقف على حافة ذاته؛ أقصد تماماً تجربته الشخصية، لينطلق منها إلى محاكمات قاسية، سواء لتجربته الشخصية، وهو العلم السينمائي الفلسطيني الرفيع، كما للتجربة الفلسطينية العامة، وقد باتت لا تأبه به، ليس فقط لا تعرفه، بل أيضاً تطرده بلامبالاة من أمام أبوابها!.. وهو أمر مفجع حقاً.
ينبغي القول بداية، إن المخرج ميشيل خليفي، سيحقق، مع عودته المظفرة فنياً، وبعد طول غيبة، فيلماً متميزاً، دون شك، فيه الكثير من حرفية السينمائي المتمكّن، العارف بتقنيات الفيلم السينمائي، بل والقادر على خوض تحديات التصوير الليلي، والتجوال الخارجي، والسيطرة على ما يكتنفه هذا العمل من صعوبات، فضلاً عن السيطرة على مفرداته جميعاً، من ممثلين محترفين، يقف على رأسهم الفنان الفلسطيني الكبير؛ محمد البكري، أو ممثلين يظهرون للمرة الأولى، كالفنانة الفلسطينية، والوجه الجميل؛ ميرنا عوض.
ربما لا يحتاج ميشيل خليفي لأي شهادة نقدية، وهو صاحب الباع الطويلة، والتجربة الغنية في تحقيق الأفلام السينمائية، روائية وتسجيلية، وما راكمه خلال مسيرته الإبداعية من منجزات.. ومع ذلك، فإن التتبع النقدي لمسيرة هذا المخرج الكبير، تشير إلى أنه حقق فنياً خطوة واسعة على طريق تراثه السينمائي، تجاوزاً لما سبق أن فعله، على الأقل في فيلمه الروائي السابق: «حكاية الجواهر الثلاث» 1994، وما فيه من اقتراحات فنية وسردية.
«زنديق»؛ الفيلم السينمائي الروائي الطويل الجديد للمخرج ميشيل خليفي، هو فيلم كبير على أكثر من مستوى فني وتقني.. ويستحق التقدير والاحترام، لم تكن جائزة المهر العربي التي نالها في مهرجان دبي السينمائي الدولي السادس 2009، إلا أولى تباشيرها للعام القادم 2010، وفي اليقين أن هذا الفيلم سيراكم عليها المزيد من الجوائز، والتقديرات، والتكريمات، وسيكون سفير السينما الفلسطينية خلالها..

ربما سيُؤخذ على الفنان الفلسطيني الكبير؛ محمد البكري، وهو المطلوب منه الكثير، أنه لم يكن في أفضل حالاته الفنية، التي اعتدناها منه، خاصة وأن تعبيراته، في هذا الفيلم، بقيت تدور ضمن حدود ضيقة، ليست مُنتظرة من فنان بحجمه، وقدراته.. وربما كان من المأمول منه ما هو أكثر من ذلك، خاصة وأن بنية الحكاية وطبيعتها، ومركزية دوره، كانت تتطلب تنويعات انفعالية أكثر غنىً، وأعمق ثراءً، سواء على مستوى علاقته بالشخصيات المحيطة به، وذات العلاقة معه، أو على مستوى تحولات الحدث معه، وهو ما لم يظهر بحرفية على تعبيرات وجهه، التي بقيت على مستوى واحد.
مع فيلمه «زنديق»، سيبدو أن المخرج ميشيل خليفي يجرُّنا إلى إشكالية المضمون، وسؤال زاوية التناول، وصوابية وجهة النظر، وتوازنها، وموضوعيتها، أكثر مما يضعنا أمام الجوانب الفنية والتقنية.. فالفيلم يأتينا كأنما هو رسالة المخرج، أو وصيته، أو قولته في الشأن الفلسطيني برمته، ومصيره، ومآله.. وليس تناولاً لجانب من الموضوع الفلسطيني، أو تفصيل منه، كما هي عادة المخرج خليفي، في أفلام سابقة له!..
ونحن نقف أمام عتبة فيلمه «زنديق»، لن ننسى أن المخرج ميشيل خليفي هو من أسس للسينما الفلسطينية الجديدة، ولادة ونشوءاً وتطوراً، فهو مؤسسها ورائدها وعنوانها، ومن أطلق بيان وجود الفلسطينيين وحضورهم في مكانهم، وحضور سينماهم أيضاً، بذروة فنية اسمها «عرس الجليل».. كما لن ننسى أنه من أسّس لتيار لذاكرة الإنسان في السينما الفلسطينية، إذ ليس عبثاً أن فيلمه الأشهر جاء بعنوان «الذاكرة الخصبة»، كما أنه من أسّس لتيار ذاكرة المكان، على الأقل من خلال فيلمه «معلول تحتفل بدمارها»..
هكذا، ومتكئين على تراثه السينمائي الكبير، وتجربته الإنسانية الغنية، وفرادتها يجعلنا ميشيل خليفي، نقلّب وجوه أبواب الدخول إلى فيلمه الجديد.. فنحاول أن نأتيه في كل قراءة، من باب.. لنجد أنفسنا ننتهي إلى أسئلتنا المحيرة ذاتها.. وننتهي إلى الخلاصات ذاتها..
إن لم يكن «م»، بطل الفيلم، هو المخرج نفسه، فعلى الأقل هو المحتقن بذاكرته ذاتها؛ ذاكرة ميشيل خليفي، نتبين ذلك من لقطات الأفلام التي أنجزها ميشيل خليفي، التي تتوارد في لقطات استعادية، يمارسها «م»، في لحظات وحدة، ووحشة، وعزلة.. كثيرة هي التقاطعات بين «م»، المخرج في الفيلم، وميشيل خليفي مخرج الفيلم، حتى ليصح قول الأخطل الصغير: «لو مرّ سيف بيننا، لم نكن نعلم هل أجرى دمي أم دمك؟»!..
وفي الفيلم سيوف كثيرة، وجراح لا تنتهي، فيركض المخرج كليثٍ هصور، كليم، مألوم، في شوارع خاوية، فارغة، إلا من العزلة، والوحشة، البرد، وصرير الرياح، وصيحات قتلة ومجرمين، وربما طالبي ثأر منه.

تنحني القضية الفلسطينية برمتها، لتنال منها صفعات غاضبة، على وجهها، وجبينها، فتتهدم وتتداعى أمام ما فعل بها بنوها بها!..
بعد ستين سنة من النضال، والكفاح، والمقاومة، والاصرار على الحضور والوجود، ذاك الذي اكتسى في غالبيته الأعمّ سمة الانتماء ما هو حضاري مدني ديمقراطي، نكتشف إننا ما زلنا ننتمي إلى مجتمع الأخذ بالثأر، والعصبيات العائلية والقبلية والعشائرية، والطائفية والدينية!..
بعد ستين سنة مما قدمته مدينة «الناصرة»، الحاضرة العربية الرائدة، والتي احتضنت الفعالية الثقافية والسياسية والاجتماعية الفلسطينية، طيلة عقود من الاحتلال، والتي احتضنت وأنجبت وقدمت أعلام الثقافة الفلسطينية، من توفيق زياد وأميل حبيبي ومحمد علي طه، إلى ميشيل خليفي وإيليا سليمان وهاني أبو أسعد، وكانت المجال الحيوي لأعلام السياسة الفلسطينية في الداخل من عزمي بشارة إلى محمد بركة وأحمد الطيبي، وتنوع الأحزاب العربية.. (وعلينا أن نعتذر للكثير من الأسماء اللامعة التي أنجبتها الناصرة، أو احتضنتها، أو قدمتها، ممن لا نستطيع ذكره).. نقول: بعد ستين سنة من كل ذلك، سنرى مدينة «الناصرة»، فارغة الشوارع، موحشة، تصفر رياح الخوف والظلام في جوانبها..
صورة مؤلمة، تدعو للبكاء.. للوعة والحسرة.. هل هذه الناصرة؟!.. أهذه هي المدينة التي ملنا عليها، وقلنا لها: أنت عاصمتنا، بعد اغتيال يافا وحيفا وعكا، وبعد تدمير اللد والرملة، وإفراغ صفد؟!.. ونتساءل: هل هؤلاء الذي يركضون في الشوارع هم نحن؟!..
يمعن ميشيل خليفي فيما شاء له من القسوة.. ولا يكذب..
وينثر في وجوهنا ما أمكنه من حطامنا.. ولا يكذب..
ويذرو رمادنا في عيوننا حتى يعمينا.. ولا يكذب..
إنه صادق.. نعم.. لن يستطيع أحد اتهامه بالكذب.. حتى تلك الرسائل التي مرّرها، فهي على جانب من الحقيقة!.. رغبة الثأر العارمة، واستسهال إراقة الدم الفلسطيني على يد فلسطيني.. عصابات تهريب الأطفال من غزة، إلى إسرائيل، والاتجار بهم هناك.. عفواً؛ ليس استغلالهم في أعمال سوداء، كأيد عامل رخيصة، بل حتى انتزاع أعضائهم، وبيعها.. الاختراع الفلسطيني المفجع، أن يكون الفلسطيني سجيناً، أو أسيراً، ليس عند إسرائيل، فقط، هذه المرة، بل عند طرف فلسطيني.. في حزن مُضاف على حزن.
ربما يكون الفلسطينيون اليوم في منحدر عميق من عصر انحطاط.. وفي قاع من زمن انكسار.. وربما آلت تجارب فردية كثيرة، على ما كان فيها من أحلام وطموحات، إلى خيبة.. ولكن الزمن الفلسطيني ذاته، ما آل إلى الخسران التام، بعد!.. ثمة أمل ما زال يساور شاعراً هنا، وقاصاً هناك، وروائياً هنالك.. ثمة أمل ما زال يحدو سينمائياً ليبدع أجمل أفلامه، وتشكيلياً ليرسم أحلى لوحاته، ونحاتاً لينقش بأمهر ضرباته.. ثمة أمل ما زال يجيش في جوانح فتى طالع من زواريب مخيم، وفتاة تجدل ضفائرها أمام مرآة فلسطين، تغني لغد أفضل، على الرغم من كل السواد الذي يظلل حواف تلك المرآة.
ميشيل خليفي.. رفقاً بنا.. وإن جدَّ جدُّ لن تكون وحدك ذاك الـ «زنديق»!..