الثلاثاء، 5 يناير 2010

رضوان الكاشف.. أي خسارة أنت؟!..


هكذا هم الطيبون..
يرحلون بسرعة وبصمت.. كأنما هم يخجلون من ضجيج رحيلهم.. ويعتذرون عما سيخلِّفونه من أسى ومرارة في نفوسنا.. ومن ندى رائق سيبلل مآقي العيون..
رضوان الكاشف..
أيها الفتى الصعيدي النحيل.. يا الرجل الطيب المتدفِّق حلاوة، وطيبة نفس.. يا النشوة التي لا يستطيعها حتى عرق البلح ..
هل أرتِّلُك بالأفلام؟.. أم باللحظات الأنيقة؟.. أم بالوداعة الناضحة من ملامحك، ومن كل لفتة طفولية تنزفها، وأنت تدرك أنك تنزف آخر ساعات العمر؟..
«قلبي متعب».. هكذا قال لي.. ومضى بين فيلمين.. بل بين حلمين.. وبنفسجة كئيبة..
«ومن منا ليس له قلب متعب.. يا صديق؟..».. قلت له.. أنا الفاشل أبداً.. إلا بإبداء فضيحة ارتباكي..
ورضوان.. هو رضوان.. الممتلئ توقاً إلى مزيد من الوقت.. ريثما ينجز حلماً آخر.. ريثما يقول كلمة أخرى.. ويبني صورة أخرى..
تضاحكنا.. وتمازحنا..
«هل تنازلت عن حلم؟..».. قلت بعد أن شاهدت فيلمه «الساحر».. فزجرني بنظرة لائمة معاتبة وقال: «أنا حلمي.. فهل أتنازل عن أنا؟.. هذا أنا.. أولئك الهامشيون الحالمون.. وربما العابثون بألم وقهر..»
انثال الحزن من عينيه هاطلاً.. عندما سألته عن المخرج حسام علي..
(من يعرف حسام علي؟.. من تراه يتلمس نبض أحلامه.. وحزنه اللا منتهي؟.. من يسألني عن حسام هنا بعيداً آلاف الكيلومترات عن شقتينا المتقابلتين.. وحلمينا المتوازيين؟..)
لم يقل رضوان هذا.. لكنه فكر به قبل أن يسألني: «تعرف حسام؟..».
قلت له: «لم أعرفه شخصياً.. ولكنني عرفت حلمه.. تلمست حرارة الشمس على وجنتيه..»..
ضبطت رضوان الكاشف يرتدي من محل للألبسة في الصالحية.. ليس بعيداً عن صالة الزهراء.. فقلت له: «أيها الشاري الفاشل.. انتظر حتى تنال جائزة أفضل فيلم عربي.. واشتر ما شئت بها من متاعك الدمشقي».. قال لي: «لا أريد أن أفسد لحظاتي في دمشق.. الجائزة عندي اعتبار.. أو محض تحية.. قليل من المال ربما يكفي للثمين مما أناله من تجار دمشقيين»..
«أشاري ولا أشتري.. يبايعون ولا يبيعون..». قلت.. ضحك، وقال: «أي ذائقة كلام لديك؟..»
وها أنا بين يدي رحيلك يا رضوان.. أكاذب اللغة.. وأحاول إغواءها..
رحيلك أقسى من الكلمات.. وأمرّ من أن يقال..
رحيل مرّ..
«عندما أردت أن أعرض الساحر كانت دمشق اتجاهي».. قال.
قلت: «أهو إغواء المدن النافرة؟..».
«دمشق نافرة بحب.. وجمهورها متطلِّب بحب..». قال.
قلت: «أهو الحب؟..»
بإغماضة كاملة من العينين البارقتين بذكاء.. قال: «نعم.. إنه الحب»..
«نحن نحبك.. تخيل أي رجل أنت حتى تحبك دمشق على أبنائها..».
فتح عينيه على مدى اتساع يقدر عليه لحظتذاك.. وقال: «بشار.. ملامحك ملامح رجل صعيدي»..
قلت: «لعل جدي الأعلى فلاح جاء في جيش إبراهيم باشا من صعيد مصر إلى غور فلسطين.. أنا غوراني.. هل تعرف ماذا يعني أن تكون غوراني؟..»..
هوى بكفه في الهواء بيننا.. وقال: «تعب.. ولا بد لي أن أنام.. سأنام..»
قال رضوان الكاشف ذلك.. ومضى على الطريق الرخامي إلى غرفته في فندق الشام.. ونام..
كان قد صار بين أوراقي عنوانه: (35 ش شمبليون، شقة 35، 5745762، المنزل: 6 ش أبو عجيلة، مدينة نصر. هاتف: 2601812، فاكس: 4186268)..
الآن..
قد أزور القاهرة.. وقد أتصل بالهاتف.. وقد أرسل له تحية الصباح عبر الفاكس..
لكن رضوان الكاشف لن يرد..
هس.. س.. س.. رضوان الكاشف.. نائم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق