الجمعة، 1 يناير 2010

في البدء.. كان الكركتر!..


بداهة، يمكن القول إن فن الدراما التلفزيونية السورية قد تأسس وقام، وارثاً لمنجزات المسرح الشعبي، من جهة أولى، ومنجزات الاذاعة، من جهة أخرى، متكئاً في الحالتين على «الكركتر»، الذي بدأ بالظهور والانتشار أولاً على يد القصاص الشعبي حكمت محسن (1910- 1968)، الشهير بشخصية «أبو رشدي»، والذي إليه ينبغي ردّ الفضل في تطوير هذا المسار الفني، الذي كان قد بدأ على يد الفنان المحامي عبد الهادي دركزللي، منذ نهاية الأربعينيات، أي مع تأسيس «الفرقة السورية للتمثيل والموسيقا» عام 1948، صاعداً في بحر الخمسينيات، حيث اشتهرت شخصيات إذاعية من طراز «أبو فهمي، وأم كامل، وأبو رشدي»، ومن ثم «صابر، وصبرية»، وتولاها حكمت محسن منذ العام 1951، عبر الإذاعة السورية، وذلك قبل أن يحطَّ هذا المسار الفني ركابه عند مطلع الستينيات، ويسلِّم قياده للفنان نهاد قلعي، الذي سوف يشكل مؤسساً حقيقياً لفن الدراما التلفزيونية السورية، وانطلاقة لها، مستفيداً من ولادة التلفزيون العربي السوري، ولقائه بالفنانين دريد لحام، ورفيق السبيعي.
مع الفنان نهاد قلعي، حدث أن بدأت الكركترات الفنية المسموعة عبر إذاعة دمشق، والتي كانت قادرة على فرض حظر التجول حينذاك، تنتقل إلى صيغ جديدة، مرئية عبر شاشة التلفزيون، وتتأصل صوتاً وصورة، وتتحول إلى شخصيات مرئية، تكاد تكون من لحم ودم، لدى المشاهدين الذين باتوا يعرفونها، ويميزونها، ويحددون مواقفهم ومواقعهم منها.. فمعه بدأت الكركترات تتناسل وتتوالد من جديد، وبدأت الأسماء تظهر، وتتعدل، وتترسخ في حيِّز الذاكرة، وبؤرة الرؤية، حتى تدامجت الأسماء الحقيقية للفنانين، بأسماء الكركترات الفنية التي يؤدونها، وصار الفنان سعيد الحظ، هو ذلك الفنان الذي يقع على كركتر ما، أو يبرع الفنان نهاد قلعي بتخليقه فنياً في إطار كركتر ما، ويبني من خلاله علاقته مع الجمهور، ويعيش بها، ويشتهر.
وربما علينا أن نستعين بالفنان رفيق سبيعي «أبو صياح»، الشريك الأصيل للفنانين نهاد قلعي ودريد لحام، في التجربة الفنية، والذي يقول: برؤيته المبدعة كان نهاد قلعي يبتكر شخصيات جديدة إلى جانب الشخصيات الرئيسية.. بينما يقول راسم المدهون: يبقى أن «غوار الطوشة»، وهو أحد أهم تلك الشخصيات «الكركترات»، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، فهو شخصية شعبية بامتياز، استعارت أدواتها الشكلية من الحارة الشامية، بمفردات معروفة، فولكلورية الطابع (الطربوش، الشروال، القبقاب.. إلخ)، وأضافت إليها حنكة المواطن البسيط، وفطنته، وأسلوبه في رؤية العالم والأشياء، وفي تفسير الأحداث، وكذلك في وضع الحلول لها. إنها شخصية، سياقها الدرامي مزيج من السذاجة والذكاء، في لعبة تقول لنا إن الحياة ذاتها بسيطة ومعقدة، في الوقت ذاته!.. ولكن «غوار الطوشة»، لم يكن له أن يتحرَّك، وأن يقيم عالمه الخاص، دون زملائه، الذين اجترح كل واحد منهم ملامحه، زيّه، وطريقته في الحركة الكلام.

أبو صياح بين محمود عبد العزيز ويسرا في الفيلم السوري «شيطان الجزيرة»

سلسلة من الأعمال التلفزيونية الكوميدية جمعتهم معاً، في زمن لم تكن فيه الدراما التلفزيونية قد حقَّقت بعد وجودها الكياني كفن مستقل عن «الإسكتش» المسرحي القصير، والمكثّف. وهي إذ فعلت ذلك، مع هذه المجموعة من «الكركترات»، فقد نجحت في استدراج وعي المشاهد إلى فرجة مختلفة، فرجة فيها الكثير من توابل التشويق، المؤسَّس على قصٍّ شعبي، له مذاقه الخاص، وفيها في الوقت ذاته سطوة الكوميديا، التي جعلت من الحلقة التلفزيونية ساعة ترويح حقيقية في الحياة اليومية، بكل ما تزدحم به من صعوبات.
وبينما يرى الفنان عباس النوري، في لقاء أجراه معه الناقد الفني صبحي حليمة، أن هذه الكركترات جاءت كواحدة من تجليات البيئة الشامية المُحبَّبة، والتي تختزل في ثناياها حكايا وخفايا وقيم وعادات وتقاليد، قريبة إلى الذاكرة، كما هي قريبة من القلب، فهناك من يرى أن شعبية شخصية «غوار الطوشة» لم تكن محلية خالصة، لأن التأمُّل في تلك الشخصية بمفرداتها المحلية، لا يغيّب عنها تأثرها بكثير من ملامح ومواصفات وحركات شخصيات كوميدية عالمية أخرى، لعل أبرزها وأشدّها حضوراً في الذهن الفنان العالمي شارلي شابلن، والذي ارتبطت شخصيته أيام أفلام السينما الصامتة، بالقبعة والعصا، والأهم من ذلك بمزجها الجميل لمواصفات متناقضة، وقعت بين حدّي السذاجة والذكاء العميق، معاً، دون أن ننسى بالطبع انحياز هذه الشخصية الدائم لكل ما هو شعبي، بسيط، ولكل ما في الحياة الإنسانية من قيم أخلاقية، ومُثل نبيلة.
في هذا الفيض من الآراء، سيكتب الناقد الفني صبحي حليمة محاولاً التأريخ لمسيرة ولادة الكركتر الفني المرتبط بولادة التلفزيون، فيقول: عام 1960 ولد التلفزيون السوري، وكان في اللجنة التأسيسية العليا فنان شاب طموح اسمه «خلدون المالح»، أُوفد في دورة تدريبية إلى التلفزيون الإيطالي، وعاد ليقدم برنامج منوعات بعنوان «الإجازة السعيدة»، يقول المخرج خلدون المالح إنه استقى فكرته من برنامج إيطالي، وقدم أولى حلقاتها في اليوم الثالث لافتتاح التلفزيون، بمشاركة فنانين من فرق الهواة المسرحية، اختارهم وانتقاهم ودعاهم للالتقاء د. صباح قباني، مدير التلفزيون ومؤسسه، فكان من الفنانين المدعوين للمشاركة، كل من: نهاد قلعي، محمود جبر، غازي الخالدي، نبيل النابلسي، محمود المصري، والفنانة تاج باتوك، ومعهم الفنان دريد لحام، الذي سرعان ما برز وسط المجموع، وسطع نجمه بتميز.
وفي هذا الصدد يقول الأستاذ خلدون المالح: إن بروز دريد وموهبة نهاد جعلتني أفكّر ببرنامج خاص من بطولتهما، وكان برنامج «سهرة دمشق» الذي استمر لمدة سنة، بشكل أسبوعي، وفيه التمعت شخصية «غوار الطوشة» و«حسني البورظان»، كما بدأت بالظهور شخصيات أخرى، ففي ذاك البرنامج ظهر الفنان رفيق سبيعي ممثلاً ومطرباً شعبياً يؤدي الغناء الناقد، واشتهر بمونولوج «يا ولد لفّلك شال»، وبشخصية «أبو صياح»، التي سبق أن قدمها مسرحياً، منذ العام 1953.
ومن جهته، يعيد الفنان رفيق سبيعي الأمر إلى اللقاء الأول الذي جمعه مع د. صباح قباني، المدير المؤسس للتلفزيون السوري، في القاهرة، حيث كان رفيق سبيعي يدرس فيها الإخراج الإذاعي. ولقد شجع قباني لقاء سبيعي والثنائي دريد ونهاد، لتجتمع الكركترات الثلاثة المتباينة في إطار واحد، أساسه البيئة الدمشقية، وقالبه الكوميديا، وعماده الكركتر.. وستكون هذه البداية الحقيقية للدراما التلفزيونية السورية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق