الثلاثاء، 5 يناير 2010

محمود جبر.. بالع الموس ع الحدين


محمود جبر بين نور الشريف وناهد شريف في فيلم «النصابين الخمسة» 1974

كان المسرح ملعبه، وميدانه. فيه صال وجال. ملأه بهجة وحركة وطرافة. حقنه بالحب للناس البسطاء؛ جمهوره الحقيقي. ما بين ضحك وفرح، وألم وحزن. ما بين شهوة انتصار، ووجع انكسار. قرابة أربعين سنة صرفها على خشبات مسارح دمشق، مقترباً ما أمكنه من الناس، مقيماً أعراساً للفرح بالحياة، والانتقاد اللاذع لكل ما يشوبها من ممارسات تنتقص من جماليتها ورقتها وعذوبتها.
محمود جبر، الذي طوى جسده على آلام أيامه الأخيرة، ورحل مبكراً، تاركاً لنا تراثاً من الفن والإبداع، وبنى عالمه الذي وسمه بميسمه، حتى بات يُعرف باسمه «مسرح محمود جبر»، ورزعه راسخاً في ذاكرة المهتمين والمتابعين.. هو الفنان الباحث أبداً، والمجتهد دائماً، من أجل رسم الصورة الفنية التي أرادها لنفسه.
ولعل تجربته السينمائية، تكشف لنا بوضوح عن محاولاته المستمرة للوقوع على «كراكتر» خاص به، مستفيداً من طريقته في الأداء، صوته، وبنيته الجسدية، وملامحه، تارة، ومن اسمه ووقعه تارة أخرى، حتى وصل به الأمر أن أخذ اسم «محمود بالع الموس ع الحدين» مازجاً بين عالميه الشخصي والفني، الواقعي والحلمي..
ننتبه إلى الظهور السينمائي المبكر للفنان محمود جبر، في فيلم «خياط للسيدات» 1969، مع الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي، بالاشتراك مع الفنانة شادية. في هذا الفيلم يظهر الفنان محمود جبر في إطار كركتر مميز شكلاً وموضوعاً. إنه يأخذ هيئة ملفتة الشكل والتصرفات والحركة، نتلمس فيها بعضاً من ظلال شارلي شابلن، ولوريل وهاردي، وربما اسماعيل ياسين، ليقدم صورة الصحفي بشكل كوميدي.
ويبدو أن الفنان محمود جبر بذكائه أدرك أن هذا الكركتر لن يستمر معه، فعاد للظهور في «شباب في محنة» 1972، مع حسن يوسف وإبراهيم خان ونبيلة عبيد ويوسف فخر الدين، في فيلم لا يحتمل الكثير من الكوميديا، بسبب من موضوعه ومناقشته لإشكاليات الشباب، وسلوكياتهم.. ولكنه أظهر مجدداً الامكانيات الفنية المميزة للفنان محمود جبر، وسط هذه الثلة من نجوم السينما العربية، حينذاك.
أما في فيلم «مقلب حب» 1972، مع ناهد يسري وهالة فاخر ورفيق السبيعي، والذي نشهد فيه ظهور أول لشقيقه الفنان ناجي جبر، يظهر الفنان محمود جبر باسمه «محمود»، والذي سيلازمه في عدد غير قليل من أعماله السينمائية والمسرحية. ولقد بدا وكأن هذا الفيلم معد خصيصاً له كنجم صاعد بقوة، يمكنه من حمل بطولة فيلم، والنجاح جماهيرياً، اتكاء على شهرته وحضوره وجماهيريته. وفي هذا الفيلم تظهر بوضوح الطريقة الكوميدية الخاصة التي انتهجها في غالبية أعماله، من حيث الاعتماد على الأداء الصوتي والحركي، والمزج بين الشاب البسيط الساذج، ظاهرياً، والعميق الإحساس، داخلياً.
أما في فيلم «قطط شارع الحمراء» 1973، مع مديحة كامل ويوسف شعبان، فسيشهد انتقالة أخرى، في مسيرة الفنان محمود جبر، إذ يترك اسم «محمود»، ليحمل اسم «كامل»، ذاك الشاب بكل سذاجته وطيبته التي تقترب إلى حد البلاهة، يخلط بين الغباء والتغابي، في مواقف لا يسحد عليها أبداً.. وهو في هذا الفيلم يستمر بطريقته المعروفة في الكوميديا، الطريقة المسرحية التي قلَّما تتغير، في الأداء الحركي، أو الأداء الصوتي، حتى لو أصبح اسمه هنا: «كامل» بدل «محمود»!..
وفي فيلم «بنات آخر زمن» 1973، مع إيهاب نافع، بدا كا، الفيلم يراهن تماماً على الفنان محمود جبر، والاتكاء عليه نجماً كوميدياً باهراً، قادراً على فتح شباك التذاكر على أوسع مدياته. إنه واحد من أفلام الصيف، حيث تتمازج قصص الحب مع الخيانة، والغني مع الفقر، والمفارقات الطريفة، والمسابقات شبه الرياضية (ظهور سينمائي نادر للمعلق الرياضي عدنان بوظو). وسيبقى في الذاكرة المشهد الأخير من الفيلم عندما تحترق ملابس الفنان محمود جبر، فيتوجه بالحديث إلى المشاهدين، قائلاً: «ليش عم تضحكوا؟.. بكرا بتصير موضة».

ويمثل فيلم «شروال وميني جوب» 1973، مع نور الشريف، ورفيق سبيعي، ومحمد جمال، وناهد شريف، عودة أخرى إلى «محمود».. إنه هنا ابن اخت الفنان أبو صياح.. محمود يعمل في تصليح الدراجات الهوائية «البسكليتات». وفي انتقاله ما بين دمشق وبيروت، والعودة، تنبني مفارقات الفيلم على حكايات شتى، من حب، وغناء، ورقص، ومسابقات شبه رياضية أيضاً.
وفي فيلم «راقصة على الجراح» 1973، يظهر الفنان محمود جبر، كعادته، ظريفاً، بطريقة أدائه المعروفة، التي تمزج المسرحي بالسينمائي، وتعتمد على طرافات مأثورة عنه، ومتداولة لديه، استخدم أشكالاً منها في عدد من الأفلام التي ساهم فيها. هو هنا صحفي فني، يتواجد في الملاهي والبارات ليلتقط أخبار الفنانين والفنانات، دون أن ينسى إبداء حالة الفقر التي يعاني منها الصحفيون، وشيئاً من حالة التبعية، ولو ذهنياً، التي يقع فيها بعض الصحفيين الفنيين، تجاه الفنانين والفنانات، خاصة النجوم.
و«محمود بالع الموس ع الحدين» يتبلور حضوره السينمائي في فيلم «نساء للشتاء» 1974، مع نيللي ورفيق سبيعي ومحمد جمال. إنه المشوار ذاته الذي قطعته أفلام القطاع الخاص حينذاك، ما بين دمشق وبيروت والعودة. هنا يظهر أبو صياح، الثري الدمشقي، وتابعه محمود بالع الموس ع الحدين، في رحلة إلى بيروت، وإذ يصدفان فريق تصوير فيلم سينمائي يقع أبو صياح في هوى النجمة نيللي، وتندلع المفارقات، التي تتكئ بعمومها على قدرات الفنان محمود جبر.
أما في فيلم «النصابين الخمسة» 1974، مع نور الشريف وبوسي وناهد شريف ورفيق سبيعي، فيتحول الفنان محمود جبر إلى شخصية «محمود أفندي»، الثري الذي يكدس أمواله في شقته المفتوحة النافذة على الجيران. والصدفة التي تجعله هدفاً لسكان البناية، في مغامرات تنجلي عن طرافات ومفارقات. مع «محمود أفندي» سيحافظ الفنان محمود جبر على طريقته الشهيرة في الأداء، ولا تصيبه إلا تغييرات في الشكل الخارجي.
وفي فيلم «الغجرية العاشقة» 1974، مع سميرة توفيق ونجوى فؤاد، يحمل الفنان محمود جبر اسم «حسونة»، الذي يتشارك مع «عبده»/ زياد مولوي، في إدارة فرقة فنية. هنا نحن أمام فيلم يكاد يكون خاصاً للفنان زياد مولوي، وبالتالي لا بد من تقدير مشاركة الفنان محمود جبر في هذا الفيلم، وتعاونه الفني.
ويمثل فيلم «هاوي مشاكل» 1974، مع أبو عنتر وأبو صياح، عودة إلى شخصية «محمود»، وهو هنا شاب في مقتبل العمر من حياته، يعيش مع والدته «ميليا فؤاد»، التي تبقى في حالة خوف على ابنها الشاب هذا، الذي من أدنى سماته أنه يتدخل فيما لا يعنيه (كثير غلبة)، وهو ما يجلب له الكثير من المشاكل. ومن الجدير ذكره أن فيلم «هاوي مشاكل» أبرز الفنان ناجي جبر، بطلاً سينمائياً قوياً، في إهاب شخصية أبو عنتر.

وفي فيلم «حسناء وأربع عيون» 1975، مع الكوميديين المصريين محمد رضا وعبد المنعم إبراهيم، يعود الفنان محمود جبر إلى شخصيته المعروفة، حتى لو تحول إلى رجل أمن يكلف بمراقبة امرأة حسناء/ مها الصالح، على اعتبار أنها مفتاح العصابة المطلوب الوصول إليها، وإلقاء القبض عليها، وفي النهاية نكتشف أن كل ما فعلته هذه الفرقة من مراقبة، وملاحقة، وتلصص، إنما كان باتجاه المرأة الخطأ..
وفي فيلم «صيد الرجال» 1976، مع حياة قنديل وناجي جبر، يظهر الفنان محمود جبر على هيئة الشاب «صالح»، المحب المغلوب على أمره أمام صدود هدى/ حياة قنديل له.. إنه يحبها إلى الدرجة التي يبدي استعداده أنه سينتظرها، ولو في نهاية درب الخطأ، الذي ينصحها بالرجوع عنه.. هو هنا نموذج للشاب الدمشقي، ابن واحدة من حاراتها القديمة، والذي لم تغيره الحياة بتحولاتها، ولا عصفت به الأيام بمستجداتها، فبقي على وفائه للحارة الشامية وقيمها.. وبقي على نقائه.
وسيقدم في فيلم «قاهر الفضاء» 1976، مع ناجي جبر وأديب قدروة، شخصية «ماهر» الرجل الذي يحترف الشعوذة والدجل، في حارة دمشقية عتيقة. ولكن هذه المشعوذ الدجال سرعان ما يرتدي طقماً إفرنجياً، ليرافق الفرنسية/ إغراء، في جولة سياحية على أهم معالم دمشق التاريخية، وخاصة قصر العظم.
وفي آخر محطاته السينمائية المتمثلة في فيلم «ساعي البريد» 1978، مع المطرب وليد توفيق، وصباح جزائري، بدا أن الفنان محمود جبر قدر غادر اسم «محمود»، دون أن يخرج من ثيابه، إذا أنه وعلى الرغم من حمله اسم «سرحان عبد ربه»، ساعي البريد، ودراجته، ومفارقاته، إلا أنه بقي لطريقته في الأداء، وللمظهر العام له. هنا هو ساعي بريد يعيش وحده في غرفة ببيت عربي، مع جيران، في حارة دمشقية،. وله كالعادة أن يكون المحب الضعيف أمام فتاته التي تقابله بالصدود نظراً لفقره وتلعثمه أمامها، وسيصبر بدأب ريثما ينتصر الحب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق