الثلاثاء، 12 يناير 2010

«إلى أبي».. مرثية التاريخ السياسي والنفسي الفلسطيني، من خلال الصورة



بذكاء يدّعي المخرج عبد السلام شحادة أنه سيحكي حكايته الخاصة، فتتقدم صورة فوتوغرافية لطفل ربما في السادسة من عمره، وبعد صمت، يتلوه صوت المخرج يعرّف عن نفسه، ويدعونا لسماع حكايته: «أنا اسمي عبد السلام».. يقول المخرج، ويحدد مولده بعد الهجرة بـ 13 سنة، لعله يعيد إلى ذاكرتنا المنشغلة بالراهن، وسوءاته، أن للتاريخ الفلسطيني بداية، أو قل نهاية!.. إنها الهجرة.. المسماة «نكبة» في أدبيات السياسة العربية.. على الرغم من أن نكبات أخرى لم تتخلف عن اللحاق بها!..
صارت الهجرة في العام 1948 ذكريات وصور.. وصار لكل منا حكايته، وروايته، لهذا المدى الممتد على عمر النكبة.. «بس أنا كمان صرت حكاية.. خليني أحكيها».. هكذا يستأذن المخرج من مشاهديه، ويدعوهم في رحلة تمتد 53 دقيقة، هي مدة الفيلم، فيها الكثير من الصور، والكثير من الكلام المرسل باللهجة الفلسطينية، الخليطة ما بين الغزية من ناحية، وبقايا ما حمله اللاجئون من قراهم إلى قطاع غزة الذي يبدو أنه صار ملجأهم الأخير، من ناحية أخرى..
ما بين صوت المغني سيد مكاوي، وهو يتدفق من الفونوغراف، مترنماً: «يا حلاوة الدنيا يا حلاوة»، والكاميرا التي تتأمل الفونوغراف، وكأنما تريد تلمس تفاصيله، والحزوز المرسومة على قرصه.. ندرك أن صوت الفونوغراف، ومرآه، ورؤية تفاصيله، تحيلنا دفعة واحدة إلى الصور الفوتوغرافية القادمة من ذاك الزمن الجميل «زمن الأبيض والأسود»، وتلمس ذاك التضاد البيّن، بين ما كان وما سيكون..
«الصورة زمان كانت كبيرة وواسعة.. كان فيها بحر وشجر وهوا.. الصورة كانت بتتنفس بالمكان.. زينا بالزبط».. يقول المخرج، الذي أرد أن يضع صوته على شريط الصورة، ربما في طموح منه للخروج بفيلم فيه من الذاتية الخاصة، والحميمية العالية، والتفلت من الرصانات الرسمية، الكثير..
الصورة تحيل إلى الذاكرة، إلى ما بقي من ذاك الزمان.. وهاهو يتذكر كاميرا التصوير، ويتغزل بها كما أجمل أنثى.. يؤنسن عبد السلام الكاميرا، ويمنحها كل صفات الجمال والرقة.. كل صفات الذكاء والمبادرة.. يستعيد كبار المصورين القدماء، الذين كانوا في غزة الستينيات.. ويعيدهم للوقوف وراء الكاميرا، كما يستعين بمشاهد جميلة لإحياء أيام الجلوس أمام الكاميرا.. يستعيد الفاصيل والطقوس التي كانت تسبق التقاط الصورة التي ستغدو تاريخ لحظة هاربة من الزمان الذاهب دوماً إلى الانطفاء.. من خلال مشاهد ديكيودراما، مصورة باللونين الأبيض والأسود، بما يليق باستذكار تلك الأيام، واللحظات.. قبل أن يعلن المصور كلمته الأخيرة: «مبروك»..

قبل حضور الصور، يحضر صانعوها، ممن اشتهروا قبل أربعين عاماً: إبراهيم حرب، الحاج رمضان، أبو غسان، سليم، العزازي، عزت، الحاج سلامة.. ومع حضورهم الآن، وقد انحنت قامات تحت ثقل الإيام، تحضر الصور: عبد الناصر، عبد السلام عارف، عبد الحليم، فريد، أم كلثوم.. وشباب يقلدون نجوم السينما العالمية مثل آلان ديلون.. وتمر مئات الصور المجهولة الأسماء، ولكن الواضحة التعابير والهيئات والملامح، وكأنها تنبض بتلك اللحظات التي التقطت فيها..
«الصور كانت حلوة.. فيها ظل، بيخلي للصورة أبعاد، وتحسسنا بالمكان وجماله، وبتخلينا نحس كأنوا بدنا ندخل بالصورة».. والصورة ذاكرة وتاريخ، وإشارات واضحة إلى واقع شخصياتها.. من نظراتهم وملابسهم وطريقتهم في الجلوس، يمكننا معرفة الكثير عن ذاك التاريخ.. يمكننا تلمس الحالة النفسية والاجتماعية لأصحابهم، مفارقات واقعهم وأحلامهم وطموحاتهم وأشكال التعبير التي يمتلكونها..
«كنا نحب بعضنا كثير».. كأنما هي جملة رسالة في زمن الكراهية، العابق الآن.. وعبد السلام يتمنى أن يصور تلك الصور التي كانت مليئة بالأولاد المتخاصرين، والسواعد الملتفة على الأكتاف، والرؤوس المائلة إلى بعضها البعض، والابتسامات المشعشعة.. لكن كيف يمكن له أن يعيد تلك الأيام، وكيف يمكن أن يجمع الأولاد، ويعيدهم صغاراً، وقد مضوا؟..
وكيف له أن يستعيد حلاوة تلك الأيام، في ظل بشاعة الآن؟.. «العينين زمان كانت غير.. كانت أحلى بكتير.. اليوم العينين بتشعر إنهن زي بعض.. بطّل في إلهن لون.. مش عارف هالأيام شو اللي تغير؟.. الكاميرا وإلا العينين؟»..
وفي مفارقة لطيفة، ينتبه المصور إلى أنه في زمن الأبيض والأسود «كان الناس مقلوبين في الكاميرا.. اليوم صاروا بالكاميرا عدلين.. بس في الواقع تغيروا».. كانت الصور أحلى، وكانت الحياة أسهل.. هذا ما تنتهي إليه ذاكرة المخرج، وهو يتجول في عالم الصور، الذي وجد منهله من أرشيف «رامتان» الغني.
«حاسس إنو كنا بنصور حالنا، كأنوا خايفين على المكان يتغير، ينهدّ، أو ينقصف، أو يتجرف، أو ينحرق.. أو الشجر يروح.. أو أصحابه يسيبوه».. يقول، فكانت حرب 1967، ضربة قاسية وموجعة، جاءت لتهز الصورة.. تقلقها.. تزعزع بنيانها.. والفيلم يظهر هلع الناس، وخوفهم، من الصور.. صار الناس يرمون الصور، ويتخلصون منها.. احترقت صور، واختفى أشخاص، وغابت أسماء.. ليس فقط الضابط المصري الذي ذهب دون وداع.. وبات جند الاحتلال يصادرون ألبومات الصور، ويعتقلون الناس بناءً على الصور.. «صارت الصور تخيفنا»..

اختفى عالم الصور الأليف، المليء بالبراءة والعفوية.. لم يعد العروسان يرتديان بذة العرس، ويذهبان إلى أستوديو التصوير لالتقاط صورتهما، كأنهما في ليلة العرس.. وكفت الفتيات والشباب والرجال والنساء عن طلب الصور الفنية، أمام لوحة معلقة على جدار الأستوديو، فيها شجر وعصافير، أو نهر وبحر، وقلعة وجسر.. ولم يعد المصورون يضعون الصورة في إطار على هيئة قلب، أو وردة، أو فنجان.. ولا بذل الوقت في وضع الرتوش، وتزيين الصور، ومنحها شيئاً من الظلال، ووضع شامة لكل فتاة..
«الاحتلال كثّر صورنا.. وغيّر بطاقات الهوية كثير.. مرة خضرا.. ومرة حمرا.. ومرة صفرا.. صارت الصور للهويات.. والكاميرا بتطلع صور فورية.. كانت بتصور سكان رفح بيوم واحد».. تغيرت الصورة، واستبدل دورها، صارت أداة تواصل بين الداخل والخارج، وانتشرت الكتابات المنمقة، والرسائل، على ظهر الصور.. فضلاً عن صور وكالة الغوث، التي تحرص على أن توزعها، في المجلات والنشرات..
في الانتفاضة الأولى حمل عبد السلام شحادة الكاميرا.. وهو يقول إن الكاميرا منحته القوة، الجرأة، الإحساس بالحرية.. عبر الكاميرا رأى أطفال الحجارة، ورافقهم، كما تعرف على جند الاحتلال، وصورهم وهم يطلقون النار، وكأنهم في حفلة صيد.. «الناس ترمي أحجار.. وصورنا صارت على كل التلفزيونات».. وبدا أن هذا تحول جوهري في صورة الفلسطيني، انتهى عام 1993 إلى نشوء السلطة الوطنية، وعودة ياسر عرفات..
مع السلطة، وعلى الرغم من الذهول والارتباك الذي أصاب الصورة، ألا أن أبرز ما فيها كان صورة العلم الفلسطيني مرفرفاً.. «كانت الأعلام جديدة.. بطلت ممنوعة.. وما عاد نتحاسب على رفعه».. ويعترف المخرج «صدقنا السلام.. الجنود ما صدقوا.. آخر دورية وهي تغادر غزة قتلت ولداً.. صوّره صديق أشرف»..
جاءت الانتفاضة الثانية 2000، وشاع القتل، والتدمير، وتجريف الأراضي.. صار الجمال يختفي.. صارت الصورة ملونة.. وبشعة.. والاحتلال زادها بشاعة.. تغيرت الصور والمعاني.. صارت الصور في الشوارع وع الحيطان.. في الميادين.. والصالونات.. وعند الرسامين والخطاطين.. والمصور صار خايف من الصورة.. بطّل يتدخل فيها.. ويضويها.. وبطّل يروتشها، ولا يحمضها.. صارت الصور تبكينا.. صارت الصور تطلع من المطابع.. صارت ملصق، أو بوستر، للشهداء والأسرى..
ومع ظهور اللثامات على الوجوه، ما عدنا نعرف أنفسنا، ولا هم عارفينا، ولا عارفين حالن.. الصور صارت كثيرة، وتشبه بعضها.. الصور مش مفهومة.. مش واضحة.. والملامح تغيب!..

يعترف المخرج أن ثمة من يسأله عن الصور القاتمة التي ينجزها الآن.. وهو يقول: يا ريت أستطيع أعمل صورة، وأضويها، وأروتشها.. وتكون فيها بلادنا كبيرة، وفيها شجر، ومطار، وميناء، والحدود مفتوحة.. ولكنه سيتأسى كثيراً، وهو يرى هذا الانهيار التراجيدي للصورة الفلسطينية، ويشعل شمعة أمل، ويطلق صرخته: «خلينا ندير بالنا على صورنا.. ونخلي بكرا أحلى»..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق