الثلاثاء، 5 يناير 2010

عشر سنوات على رحيل محمد خير محظية


«دافئٌ موتكَ فينا
تموتُ كالسحابْ.
موتُ السحاب مطر»
ذات مساء مُوغل في الوحدة والوحشة، كتب الشاعر محمد خير محظية هذه الكلمات، قصيدةً عنوانها «انهمار». قالها «يومذاك» في رثاء الفنان الشهيد ناجي العلي، وكأني بالشاعر أراد أن يفلسف الموت، وهو يراه دائماً على مسافة خطوة منه. فدائماً كان ثمة انهمار حزين يلفّ الروح، والشاعر الوحيد في غرفة وحيدة في مخيم دنون، يرتّل كلماته، يسوّد أوراقه الأنيقة، يبني عالماً من اللغة، علّها تمحو أسىً يحتقن بين جانبيه، يمضّ قلبه المتفجّع، ويرهق جسده الناحل النحيل.. وكان ليل طويل..
كأنما اللغة أضحت الوسيلة الوحيدة التي يملكها الشاعر في وقته الذي رآه في كل لحظة يتسرّب بين يديه. كانت اللغة عنده خياراً، واختياراً.. فبدت طريقته في العيش، ليس فقط في التعبير عما يجيش في داخله، من مشاعر وأحاسيس، ولا عما يدور في ذهنه من أفكار وآراء ومواقف، ولا عما يريد قوله.. بل لعلها غدت قادرة على أن تعوِّضه عن الطعام والدواء.. عن الأصدقاء وهم يتباعدون مع مشاغلهم الحياتية، وعن النساء الجميلات اللواتي «كن ينهضن على حوافي سريره، ولم ينتبهن إلى ما لم يقله الكلام»..
محمد خير محظية الشاعر، والفنان التشكيلي، أضحى في لحظة غادرة، من الزمن الكئيب، قصة رحيل مفجع.. كان ذلك ذات ليلة كانونية مترعة بالبرد، بالوحشة، وأنياب الألم تنهش جسد الشاعر، وتبخل عليه حتى بقبضة هواء، ريثما يصل الباب الذي طالما انفتح أمام الكثير من الأصدقاء، أولئك الذين لم يستطيعوا أبداً انتشال الشاعر من وحدته، بل قل من وحشته.. الباب الذي انغلق على الكثير من الأحلام والآمال، كما على عمر من الأحزان والمواجع، منذ أن طوت أمه «ندوة» جسدها النحيل، وغادرت الدنيا، فصارت قصيدة لا تنتهي، تملأ دفتر أشعاره، فيض حكاياته، وثنايا استذكارته..
كان غريباً.. عاش كذلك، ومضى.. هكذا دون أن ينتبه أحد.. دون أن يرمي تلويحة وداع.. لم يلتفّ حول سريره أصدقاء، ولا بكته أمٌّ، أو حبيبة.. فلم يكن يأبه بالموت، ولا يخشاه.. بل لعله رآه بعيداً عنه، أو رأى نفسه عصياً عليه.. فربما توهَّم أن الموت قد ارتوى من رحيل من سبقوه من الشعراء الذين صادقهم على صفحات دواوينهم، وفي ثنايا مجموعاتهم الشعرية.. الشعراء الذين أصبحت حكاياتهم المأساوية، ونهاياتهم الفاجعة، توق انتمائه إليهم، فهو إن لم يستطع الانتساب إلى مجمع الشعراء، ولو بمجموعة شعرية واحدة، فإنه يستطيع الانتساب إلى أوجاعهم، بمئات القصائد.. السيّاب ودرويش والقيسي.. بودلير وإيلوار.. أراغون ورافائيل ألبرتي.. وبابلو نيرودا..
الشاعر محمد خير محظية، الذي ولد في مخيم دنون عام 1959، صعد إلى بهاء الشعر مع مطلع الثمانينيات، وانطفأ مع نهاية التسعينيات «12/12/1999» فكان عقدان من زمن الأحلام.. وكانت أربعون من سنوات الخيبة.. خيبة أن لا يستطيع أن يكون نبيّ الشعر في مخيمه.. ربما صدق القول: «في الأربعين، إذا لم تستطع أن تكون نبيّاً، فعليك الرحيل».. وربما هو المخيم ما عاد يحتاج الشعراء، ولا الأنبياء..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق