الثلاثاء، 5 يناير 2010

بين محسوم.. وجدار


و(المحسوم)، كما تعلم، مصدرها (حسام): أي سدّ الشارع.. قطع الطريق.. منع المرور.. وقف الحركة.. وهي تعني (الحاجز)، ومنها (الحواجز) التي تقيمها قوات الاحتلال، فتسدُّ على الناس في فلسطين المحتلة دروب الحياة!.. ليس طرق الرواح والمجيء، فقط، بل تكاد تريد التقاط الأنفاس، وقبضات الهواء من الصدور!.. قبل أن تنوي القبض على آخر حلم بالتنقل، أو طيف فكرة في مخيلة من يريد في نفسه شيئاً..
و(المحسوم)، يغدو هو الفاصل، وهو الواصل، بين عالمين.. هو الحدود، وهو المعبر.. هو الألم، وهو الأمل بالخروج. عند حافته تتكثَّف المأساة الفلسطينية اليومية، بعيداً عن الشعارات والتنظيرات، وبعيداً عن التوعدات..
إنه عنوان التفصيل اليومي، سواء، للطفل الذاهب المدرسة، والرجل الباحث عن ساعة عمل، علّه يعود ببعض المال، أو زاد من الطعام، يفي حاجة الأفواه التي خلفها طيّ البيت.. هو عنوان التفصيل اليومي للفتى الذاهب للجامعة، والفتاة وعريسها، وللمرأة التي تحاول الوصول إلى سوق، أو مشفى، أو يد قابلة، تنجيها من رفسات جنين يصرّ على الخروج للحياة..
(المحسوم) يحاول، كل جهده، أن يكون الألم، والذل، والمعاناة.. أن يصعِّدها إلى أعلى ما يمكنه (أو ربما قاع ما يمكنه).. وأن يصبَّ مرارتها علقماً في حلق الفلسطيني.. كأنما هو يريد القول للفلسطيني: «لم أنت هنا؟.. اذهب إلى عالمك العربي.. خلف النهر، أو خلف الصحراء.. اذهب إلى أعرابك المدجَّجين بالكسل والتثاؤب، بالحدود والتفتيش، وقوائم المطلوبين وقائمة الممنوعات!»..
هكذا يريد (المحسوم) قهر الفلسطيني وطرده.. أو التهام وقته.. جهده.. إتلاف أعصابه.. قدرته على الصبر.. طاقته على التحمّل.. يريد منه أن يزهق روحه، وأن يكفر بالوطن عندما يغدو سجناً.. لا يترك المحسوم صغيراً ولا كبيراً، لا رجلاً ولا امرأة.. إنه يحاول التقاطهم جميعاً.. وكسرهم..
والجندي الإسرائيلي المنحوت، كأنما من قطع إسمنت (المحسوم) ذاته، والمدجَّج بقسوته، يحرص على أن يكون سريع الانفعال.. لا يحتمل الشكوى.. لا يسمعها، ولا يتقبلها.. ستراه دائماً يده على الزناد، وصوته يلعلع صارخاً بالأوامر: «إنتا.. روح من هون!.. ارجع!.. ممنوع!»..
النهار، قد يمضي وقته متأملاً بالفلسطيني الذي ينتظر بصبر، يكاد يتأفَّف منه حتى صبر أيوب ذاته، أمام (المحسوم)..
الزمن ذاته ينتظر في المكان.. الزمن قد يكلّ ويملّ.. ويبقى الفلسطيني على عناده، أو ما تبقَّى له منه.. يأتي كل يوم، يعاود الكرة، ليصرَّ الصغير على الوصول إلى المدرسة، والشاب إلى الجامعة، والرجل إلى العمل، والمرأة إلى السوق، أو لتضع مولوداً فلسطينياً جديداً، يثير الرعب في جداول الديموغرافيا، وقنابلها المزعومة، آخر أسلحة التدمير الشاملة، التي يستحق عليها الفلسطينيون العقاب!..
هل من السهل المرور على تلك المعلومة التي تقول: إن (52 امرأة فلسطينية أنجبن على الحواجز.. وأن 19 امرأة، و29 طفلاً حديث الولادة، توفوا عندها)؟!..
***
في فيلم «التحدي» للمخرج نزار حسن 2001، أصبحت نيويورك أقرب إلى رام الله من أي مدينة فلسطينية مجاورة، القدس، أو بيت لحم، أو الخليل، أو غزة.. سيصرخ المخرج والمصور عبد السلام شحادة، عبر سماعة الهاتف معلناً إنه مسجون في غزة، ولا يستطيع الوصول إلى رفح.. فما بالك برام الله؟!..
وسيجدِّف المخرج والمنتج (رائد أنضوني)، ويلعن الساعة، وهو يقطع (طريق وادي جهنم)، المُرغم على المرور منه، وهو يقطع المسافة من جنوب القدس إلى شمالها!..
ألم تنتبهوا إلى الشاعر محمود درويش، وهو يتوقف أمام (المحسوم) في فيلم «الأرض تورث كاللغة» للمخرجة سيمون بيتون، عام 1998، قائلاً: «هنا ينتهي كل شيء»!..
عند (المحسوم) تنبني الحدود، وتنهض الموانع، والعوائق!.. كأنما الأفق ذاته ينغلق، ومساحات الوطن تنتهي.. فمن تراه يمرّ دون رغبة، أو موافقة، أو سماح متلكئ؟..
أي عودة تلك التي يمكن أن تتأنَّق احتفالاً بالوطن، إذا كان الفلسطيني لا يستطيع المرور من بين أصابع (المحسوم)؟.. من تراه يمر؟.. من يعبر؟.. بل من تراه يقدر أن يكفي نفسه مؤونة الذل والقهر والانتظار الممل؟..
يفرح (المحسوم) ويتلذَّذ!..
إنه يفرك يديه بابتهاج، وهو يرى حالات إغماء، ارتفاع ضغط، أو انخفاض سكر، واختناق قاتل من شدة التعب، ووطء الانتظارات التي يتعرض لها الفلسطينيون على حافته!..
وجود (المحسوم) يطغى في حياة الفلسطيني، على كل شيء.. إنه يتخلل كل تفاصيل الحياة.. حتى أن نفسية الناس مرتبطة بالخبر الوارد عنه.. وبه يتعلق كل شيء.. خططهم، مشاريعهم، لقمة العيش، مكان العمل، صفّ المدرسة، وقاعة الجامعة.. كل التفاصيل تبدأ من حيث موقعها: أهي أمامه، أم خلفه؟.. هل من الممكن المرور، أم لا؟.. كل الاعتبارات تبدأ بـ (المحسوم).. وربما كل شيء ينتهي عنده!.. من جرس المدرسة، وبدء توقيت ساعات العمل، حتى حياة من دخلت لحظة المخاض، أو الشهقات اللاسعة في صدور من داهمتهم الجلطة، أو نوبات الربو، أو إبر السكري..
(المحسوم) يبرِّر نفسه بنفسه.. له منطقه الخاص، وشروطه التي على الآخرين أن يتقبلوها.. راضين أو زعلانين!..
لا يستطيع المخرج صبحي الزبيدي الانتقال، من الضفة الغربية إلى غزة، في فيلمه «خارطتي الخاصة جداً» عام 1998..
ويعلو (المحسوم) فوق رؤوس الجميع، في فيلم «يد إلهية» للمخرج إيليا سليمان، الحائز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان السينمائي الدولي، عام 2002.. هذا مخرج فلسطيني يغزو (مهرجان كان) والسينما العالمية من خلال الحكاية ذاتها.. الفلسطيني و(المحسوم).. يا لتلك الثنائية المذهلة؟!..
ينبني فيلم «يد إلهية»، في حكايته المركزية، على وجود (المحسوم) المرتفع ببنائه المعدني، وقطعه الإسمنتية.. جنده وأسلحتهم.. أدوات الرصد والمراقبة.. والأوامر بالتوقف، أو المنع من المرور، أو العودة من حيث أتيت..
يمرون أو لا يمرون!.. ذلك هو جوهر حكاية الفلسطيني اليومية.. ولا يجد الفلسطينيان، أقصد بطل وبطلة الفيلم، سوى اللقاء عند حافة (المحسوم).. في الفناء الملحق به.. واللقاءات المتتالية ستسمح لنا من خلال عيني بطلي الفيلم أن نرى تلك الممارسات الوقحة.. ومنها ذلك الجندي الثمل الذي يتصرف بالفلسطينيين المتوقفين في طابور انتظار المرور، كما يريد.. حتى أنه يجعل منهم من يرقص معه وينشد لـ (حياة إسرائيل وشعبها)!..
وسنرى تفاصيل أخرى، في فيلم «عرس رنا» للمخرج هاني أبو أسعد، 2002، حيث يؤشر الفيلم إلى وقوف الحاجز (المحسوم) بين الفلسطيني ونفسه.. ويقوم بعقد القران بين العروس وعريسها على حافته، رغم كل شيء..
يأخذ المخرج إيليا سليمان لنفسه موقف أنه يبشّر بإمكانية هدم (المحسوم) عندما يواجه الجمالُ الفلسطيني قبحَ الاحتلال الإسرائيلي، فنظرات الفاتنة الفلسطينية (منال خضر في الفيلم) تجعل برج المراقبة عند الحاجز يتداعى، وأصابع الجنود تتراخى عن عصر زناد السلاح، وإطلاق النار.. دون أن ننسى، بالطبع، مرور قبضة الهواء في الأعالي، من خلال بالون ارتسمت عليه صورة الرئيس عرفات!..
في أدنى التفاصيل، ثمة من يقول لنا إن هناك «أكثر من 150 حاجـز عسكري في الضفة الغربية، وأكثر من 40 داخلها، وعلى طول قطاع غزة».. ولا ريب أن هذا الكمّ، قلَّ أم زاد، إنما يعني أن الفلسطيني سيجد (المحسوم) بينه وأقرب ما يريد، أو ألزم ما يحتاج..
في أفلام فلسطينية، من طراز «فورد ترانزيت» لهاني أبو أسعد، وفيلم «كأننا عشرون مستحيل» لماري آن جاسر، والكثير جداً من أفلام غيرها، سيكون للحاجز، المحسوم، المعبر.. ومهما تعددت المسميات، أشكالاً من الحضور..
إسرائيل.. لا تفكر في إزالة المحاسيم/الحواجز، أبداً.. أو حتى التقليل من عددها.. بل إنها تفكِّر، (رحمة منها بالفلسطينيين)، أن تدجِّجها بالمرافق الملحقة، وأن تجعلها أكثر (إنسانية).. ستوزع الحلوى، وكؤوس الشاي الساخنة، على المنتظرين، ولن تجعلهم ينتظرون أكثر من ست ساعات، مثلاً..
ابتهجوا..
سوف يحصل الفلسطينيون على (محاسيم) أكثر إنسانية!..
وربما سيقوم الفلسطينيون بدعوة الأصدقاء، لقضاء وقت جميل..
ربما، التمتّع بالوقوف قرب قطعها الإسمنتية، وتحت أبراجها المعدنية، وفي المدى المجدي لأسلحة جندها.. تماماً كما يحتفلون، الآن، عند حافة الجدار الفاصل.. (الجدّ الأعظم لكل المحاسيم)..
فمن تراه قال إن الدولة الفلسطينية ليست قاب قوسين أو أدنى (من محسوم، وحاجز، ومعبر، وجدار فصل)؟..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق