الثلاثاء، 5 يناير 2010

كانت تسمى فلسطين.. صارت تسمى فلسطين


فيلم «ارتجال» يبدو فيلماً موسيقياً، منذ اللحظات الأولى، وحتى لقطة الختام. الأصابع وهي تغازل أوتار العود، العيون البارقة، الأكتاف الناهضة، والأجساد المنثنية، الاحتضانات الودودة، والتنافرات الغاضبة، التصالحات بالقبلات المتبادلة، والدموع المُقطَّرة كما الندى، ومحمود درويش على منصة مسرح القصبة، الجمهور الفلسطيني وهو يغني «أهواك» لعبد الحليم حافظ، وحديقة معهد العالم العربي، تمتلئ بالجمهور الباريسي.. كل ذلك كان شريكاً فاعلاً في انهمار العزف الذي يبقى يرين في الأسماع، بعد انتهاء الساعة التي يستغرقها الفيلم.
إنه «ميوزيكال» دافق، يبدأ من رام الله، ولا ينتهي بحضور الألف مشاهد في يوم باريسي مشرق.. «ميوزيكال» ينثره ثلاثي جبران، وهو خلاصة أحلام أب، وثلاثة أبناء، وأسرة كل ما فيها يشعّ موسيقى!.. ومع ذلك فهو في عمقه، أو القراءة الموازية له، فيلم نابض بالموضوع الفلسطيني في لحظات تاريخية فارقة..
في حكايته، يتناول الفيلم عائلة جبران، المعروفة في الناصرة، وعموم فلسطين، بصناعة آلة العود، وفن العزف عليه، منذ مطالع القرن العشرين. فيؤسس بداية للخلفية التاريخية لموضوعه، من حيث الإشارة إلى إنه هنا كانت فلسطين، وكانوا فلسطينيين، قبل أن تنهض على دمارهم «دولة إسرائيل»، وقبل أن تُحوّلهم إلى «أقلية عربية» بين يديها!.. وسيكون كل ما في الفيلم، بعد هذه المقدمة، ناضحاً بصورة الفلسطينيين الباقية، والمستمرة، والمتجددة، ليس فقط اتكاء على ما سيقوله الشاعر محمود درويش: «كانت تسمى فلسطين.. صارت تسمى فلسطين»، بل إيضاً في كل لفتة، أو نبرة، أو نقرة عود، ينزفها الأخوة جبران..
إنه بورتريه لعائلة موسيقية، تصنع آلة العود، وتتقن فن العزف عليها. عائلة تعيش هذه المهنة أكثر مما تعتاش منها، الأمر الذي جعل من الموسيقى هويتها، وأداتها، وسبيلها في الحياة، ووسيلتها في الوجود، في الوجود الفلسطيني. تتكثَّف أحلامها حتى تكاد تصير تأليف ولو جملة موسيقية جديدة واحدة، وتتسع حتى تصبح بحجم وطن، تصوغه الموسيقى، وتحمله إلى أنحاء الدنيا.. كما إنه حكاية هذه العائلة في حلمها الذي لا تقف في وجهه «الدولة»، بحدودها، وحواجزها..
لاتنفصل الموسيقى عن الحياة الواقعية، لدى سمير، والانغماس في العزف على آلة العود، عنده، لا يمنع رؤية حال الموت والدمار، بل هو يدرك أن جزءاً من التصفيق الذي يلاقيه هو من أجل فلسطين!.. ويعلن أن جوهر ما يريد قوله «إن الفلسطينيين ليسوا إرهابيين.. هاهم يعزفون الموسيقى، فأحبوا موسيقاهم»..
إنه يلعب دور العمود الفقري في العائلة والفيلم، معاً.. له التنظير في السياسة والاقتصاد والفن، وهو باعتباره الأخ الأكبر في عائلة جبران، الأكثر خبرة وتجربة ومعرفة، سيكون القائد الفني للثلاثي الموسيقي، الذي سوف يمضي طيلة الفيلم في محاولات تحقيقه، عبر جولات التدريب المتواصل، في رام الله، أو في الناصرة.. بل إنه سيبدع، مع شقيقيه، المختلف والجديد من جلسات التدريب، التي تعتمد أولاً وأخيراً على الارتجال.. فلن نرى أياً من العازفين يمسك نوتة موسيقية، أو يكتب علامة موسيقية.. في الحقيقة هم يكتبون موسيقاهم بالتفاعل الروحي فيما بينهم، وعلى أوتار العود مباشرة..
في الحفلة الشهيرة التي شهدها مسرح القصبة، في رام الله، قبيل دماره، كان سمير هو الشريك على آلة العود، مع الشاعر محمود درويش.. هو الدور ذاته الذي قام به الموسيقي الكبير مارسيل خليفة، في بيروت، وفي باريس، من قبل، ومن بعد..
سيُنهك الشقيق الأوسط «وسام»، الذي يبدو صبوراً جداً، مختزناً الكثير من الأحلام، قليل الكلام.. «وسام»، في لحظة اعتراف، يقول: «لدي الكثير من الأحلام، ولكنني لا أقولها، كما يفعل سمير»!.. وسنعرف من أحلامه دراسة الموسيقى في الخارج، والعودة إلى «البلاد» لإقامة ورشة عمل، لصناعة وتعليم العزف على العود، وتحقيق حلم الأب في بناء ورشة خاصة لصناعة آلة الكمان..
في ثنايا «وسام»، يمتزج الصانع والعازف، والدارس والحالم، في الوقت نفسه، وهو يرفض أي افتراض لافتراق العازف عن الصانع، والتخلي عن الدراسة.. هكذا هو يمثل النزوع نحو المستقبل دون إفلات الراهن، أنه فعل التجاوز المشدود إلى ثقل الاشتراطات المادية، وأعبائها. من جهة نراه في لباس العمل في الورشة، يصنع آلة، أو يرمم أخرى، ومن جهة أخرى نراه مع سمير يشكلان ثنائياً موسيقياً، في مشاهد من حفلات قاما بأدائها معاً، من قبل.
أما الشقيق الأصغر «عدنان»، فهو صورة مختلفة تماماً، ومتمِّمة تماماً..
إنه الفتى الذي قاده إلى العزف على آلة العود، قصة حب.. هو يبدو على هيئة عازف صاعد ماهر، ممتلئ بالثقة، مبادراً فيما يراه، الأمر الذي يجعله يتلقى موجات الغضب العارم التي يصبها الأخ الأكبر سمير، بالصمت تارة، وبالدموع، والموسيقى تارة أخرى.. إنه السرّ المختبئ في القادم من الأيام، والامتحان الذي ينتظره الجميع، على قلق.. هو حلم الأيام الآتي، والفيلم سينتهي إذ ينجح، بالتعاون مع شقيقيه (سمير ووسام)، في تكوين الثلاثي الموسيقي، وبعد أن يؤدي دوره بنجاح، أول مرة على خشبة المسرح..
يختبئ المخرج «رائد أنضوني» وراء شخصيات فيلمه الثلاث، يتعامل معها بحب، وقد حملت كل شخصية منها، جزءاً من شخصيته هو، أفكاره، رؤاه، مشاعره، وربما قلقه.. لقد عرف كيف يختارها، أولاً، ومن ثم عرف كيف يصنع عنها فيلماً جميلاً، ثانياً، وأن يخلق منها عالماً فلسطينياً بشكل تعقيداته وتشابكاته، بل بكل نزوعه نحو الحياة التي يستحقها..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق