الثلاثاء، 2 أكتوبر 2012

«المراجحة»؛ فيلم افتتاح مهرجان أبوظبي السينمائي 2012

أعلن «مهرجان أبوظبي السينمائي»، أن افتتاح دورته السادسة؛ بتاريخ 11/10/2012، سيكون بعرض فيلم «المراجحة»؛ (Arbitrage)، من كتابة وإخراج نيكولاس جاريكي، وبطولة ريتشارد غير، سوزان ساراندون، تيم روث، بريت مارلينغ، بيت باركر..
 
جرى عرض الفيلم، للمرّة الأولى، في مهرجان صندانس (يناير 2012)، خارج المسابقة. وبدأ عرضه الجماهيري في الصالات الأمريكية في 14 سبتمبر 2012، وسوف تتالى عروضه في العديد من مدن العالم، قبل وبعد «أبوظبي»، ليبدو هذا الفيلم فرس رهان، يستبقه البعض بتوقّعات ترشيحه لأوسكار ما، مطلع العام القادم. وينبهنا مهرجان أبوظبي السينمائي إلى أن أصل اختياره لهذا الفيلم في افتتاح دورته السادسة، إنما لمشاركة المنتج السعودي «محمد التركي»، في إنتاجه (الفيلم يشير إلى أنه سادساً ضمن المنتجين المنفذّين للفيلم)، ولموافقة بطل الفيلم «ريتشارد غير» على الحضور إلى «أبوظبي» للمشاركة في فعاليات افتتاح المهرجان.
يبدأ الفيلم من ثلاث حركات جاذبة، تصنع تمهيداً مناسباً للسيناريو المتماسك: الحركة الأولى: نرى «روبرت ميلر» في لقاء تلفزيوني، يتمّ تسجيله في منزله. هنا يتحدّث «ميلر» عن قدرته على تنبؤ الأسوأ، ويكشف عن خبرته وفلسفته بصدد السوق ومنافساته وتحوّلاته. الحركة الثانية: سنشهد خيبته، وعدم قدرته على توقيع العقد، الذي قطع من أجله ألفي ميل، وذلك لغياب السيد «مايفيلد»، الرجل المُستهدف بهذه الصفقة. الحركة الثالثة: مناسبة احتفاله بعيد ميلاده الستين، في أجواء أسرية بهيجة، معلناً أن أفضل ما فعله في هذه الغرفة، أي تكوين هذه الأسرة، وهو الذي سبق له في الحركة الأولى أن بيّن أثر والديه على تكوينه، وعلى دورهما فيما صار إليه الآن.
تتميّز الحركة الأولى، التي ستأتي في قسطها الأكبر، ونحن نرى شاشة سوداء (بلاك)، بأنها تقدّم الأرضية الراسخة لفهم شخصية هذا الرجل. تاريخه وخلفيته الاجتماعية والثقافية. رؤيته. فلسفته. وحقيقة اشتغالاته. إنه رجل ورث عن والديه فكرة ملخّصها: «الأشياء الأسوأ تحدث». وأنه ممن يؤمنون أن كل شيء يمكن اختصاره بـ«المال»، وأن العالم يدور حول أشياء أربعة، ما هي إلا الأحرف التي تكوّن هذه الكلمة (المال)، وعلينا الانتباه إلى أنه يهجئ كلمة «المال» حرفاً حرفاً، ولا ينطقها دفعة واحدة. تأكيداً وترسيخاً على عمق إيمانه بهذه الفكرة، دونما أدنى ريب لديه.
التأسيس الأوّلي هذا يُوهم المشاهد أنه أمام شخصية نموذجية: شخصية ناجحة ومهمة إلى درجة أن يجري التلفزيون حواراً معها، بحضور طاقم العمل إلى منزله. شخصية عارفة وفاهمة وخبيرة بشؤون السوق، تمتلك رؤيتتها وفلسفتها. شخصية أسرّية حنونة، ذات علاقة جيدة مع المحيط الاجتماعي، وتفتخر بانتمائها لهذه الأسرة، التي تبدو أنها أجمل ما لديه في هذا العالم، كما لا يتردد القول، وإنه سيفعل كل شيء من أجلها. بل إنه يعلن أمامهم ووسطهم أنه يرفض الحديث عن العمل، وشؤونه، في هذه الليلة الخاصّة بالأسرة.
سرعان ما يحطّم الفيلم هذه الحلقات، لتبرز لنا حقيقة أخرى لهذه الشخصية. أولاً: بعد مشهد المقابلة التلفزيونية التي تشي بالنجاح، سنراه عائداً خائباً دون توقيع العقد. وثانياً: بعد مشهد عيد ميلاده، وقوله إنه لا يريد الحديث عن العمل، نراه في مشهد يضمّه مع ابنته، في غرفة المكتب المنزلي، وهما يخوضان في شؤون العمل، ومن ثم يغادر البيت المشتعل احتفالاً بعيد ميلاده، ويخرج فيما ينبغي أن يثير الدهشة!.. وثالثاً: وصوله إلى منزل عشيقته، التي بدا أنها كانت على موعد معه، للاحتفاء بطريقتهما بمناسبة عيد ميلاده ذاتها.
كل هذا سيجري خلال أقلّ من عشر دقائق. يبني السيناريو فكرة ويهدمها، يقدّم صفة ويمحوها. يشيع وهماً ويبدّده. هكذا يبدو أن السيناريو يلتزم القواعد والأصول والضوابط التي تُحدّد أن الدقائق العشر الأولى هي الحاسمة في السيناريو، أيّ سيناريو، وهي التي تحدّد فيما إذا كان المشاهد سوف يستمر في متابعة الفيلم، أم ينصرف عنه!.. ترى ماذا يمكن أن يكون أفضل من هذه المقدمة: رجل أعمال يبدو ناجحاً في مشهد أول، لنكتشف في المشهد التالي أنه مأزوم وعلى حافة الهاوية. رب أسرة وفيّ ومتفانٍ لأجل أسرته في مشهد، لنكتشف في المشهد التالي أن لديه عشيقة، وحياة سرّية؟!..
تتشابك الخطوط الدرامية، لتؤثّث حياة رجل أعمال، يكاد الفيلم كلّه يقوم على كاهله. إنه المحور والأساس، وكلّ ما في الفيلم يدور في فلكه. ليس ثمة من قصص فرعية، إلا لتصبّ فيما يتعلّق بهذا الرجل الفاره الأناقة، والباذخ الحياة. رجل متمرّس في عالم المال والأعمال، تفيض حدوده عن البلد كله. سنعرف أنه يستثمر في كل مكان، من مناجم النحاس في روسيا، إلى العقارات في أمريكا. ولكن الفيلم، في الوقت نفسه، لا ينوي التغزّل بهذا الرجل، ولا سرد حياته، ونجاحاته، أو خيباته، ولا قصة صعوده أو انهياره!.. إنه يريد فضحه وتعريته، ولن يتردّد بزجّه في أصعب المواقف، وأكثرها تعقيداً، حتى لو جاءت من باب الصدفة، و«القضاء والقدر»، على ما نقول نحن.
ذات ليلة، وعلى شيء من تأثير الكحول، سيأخذ عشيقته في مشوار ليلي، لقضاء وقت في منتجع ريفيّ، وسيكون أن يغفو قليلاً خلف مقود السيارة، مما يؤدي إلى حادث سير فظيع، يؤدي إلى مقتل العشيقة. هكذا سيصبح «روبرت ميلر» على حافة انهيار كل شيء، شخصياً وعائلياً ومهنياً. الآن بات في وضع مُقبل على فضيحة أنه كان يقود تحت تأثير الكحول، برفقة عشيقة، تسبّب هو في مقتلها. هذا وحده كاف لتدميره، ليس فقط وضعه الأسري؛ زوجته وابنته وابنه، وليس فقط سمعته ومكانته الاجتماعية، بل أيضاً، وربما قبل كلّ هذا، ضياع تلك الصفقة التي ستنتشله من كارثته المالية المحدقة.
سينجو «ربرت ميلر» من الكارثة، ولكن بعد أن تحوّل الفيلم إلى شيء من فيلم التحقيق البوليسي؛ تلك المتابعة التي يخوضها المحقق «براير»، الذي سيبدو منذ البداية حاقداً على الأثرياء، كارهاً لهم، طامحاً إلى الإيقاع بهم. لن يترك «ميلر» خبثاً ودهاء ومكراً لم يستخدمه. ذكاؤه وحيلته وحُسن توظيفه واستثماره لعلاقاته وأمواله، وحنكته، سوف تجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً، دون أن تهتزّ شعرة من ضميره. إنه عالم المال الذي لا يأبه بالإنسان، لا بحياته ولا بمصيره ولا بوجوده أصلاً.
هذا فيلم نقدي تماماً. فيلم مبني سلفاً على فكرة فضح وتعرية عالم رجال المال والأعمال، وكشف ما هم فيه من كذب وافتراء واحتيال، ولا إنسانية. طالما أن فلسفتهم تقوم على الأحرف الأربعة لكلمة «المال»، فكل شيء ممكن عندهم، وكل شيء متاح لهم، في عالم لا يعرف إلا الانحناء لهم، ويتصاغر بين أيديهم، ويؤمنون أنه كل شيء فيه قابل للبيع والشراء.
 
إنه فيلم أقرب إلى أن يكون مشروعاً شخصياً لمخرجه، على الأقل لأنه كاتب السيناريو بنفسه. هنا؛ الكاتب أصلاً «نيكولاس جاريكي»، يُبادر إلى كتابة السيناريو، والاشتغال على إخراجه، لننتهي إلى فيلم مرافعة، وخطاب نقدي لاذع، لا هوادة فيه ولا رحمة، ليس تجاه «روبرت ميلر»، فقط، بل ومن يشبهونه من شريحته وطبقته. وستتحوّل النهاية المفتوحة إلى ناقوس خطر يدقّ عالياً مُحذّراً أن أمثال «روبرت ميلر» ينتشرون في حياتنا، ويؤثّرون فيها، وربما يقودونها في السياسة والإعلام والاقتصاد والفكر..
يأخذ «ريتشارد غير» المساحة الكبرى، وربما الكلّية، في هذا الفيلم. لا يكاد يقاسمه أحد في بطولته (لنلاحظ أن ملصق الفيلم لا يقدّم إلا صورته وحده). حتى «سوزان ساراندون»، بكل ألقها، ستبدو على هامشه. صحيح أنها ذات مشهد ستكون عاملاً هاماً في محاولة التصدّي له، وإيقافه عند حدّه، خاصة لناحية مستقبل ابنته شريكته في العمل، ولكنها لم تتقدّم لمضاهاته في الفيلم أبداً. لقد بقيت على هامشه، وفي ظلاله. وحدها ابنته «بروكي ميلر»، بأداء مشعّ لـ«بريت مارلينغ» يمكن لها أن تضاهي والدها في الحضور، وتناظره، ولكن في الإنتماء إلى الضفة الأخرى، لتكون ما يمكن القول إنه صوت خافت لما تبقّى من ضمير في هذا العالم. دون أن ننكر، طبعاً، الحضور المتقن للمحقق «براير» (بأداء تيم روث)، والفتى الأسمر «جيمي غرانت» (بأداء نيت باركر)، وهما اللذان سيعادلان كفتي الميزان، بين من يسعى لفضحه، ومن يعمل على إنقاذه.
ببرودة مذهلة يؤدي «ريتشارد غير» شخصية «روبرت ميلر»، الثريّ الذي لا يتردّد في ممارسة الموبقات: الخيانة الزوجية، الكذب، الاحتيال، الابتزاز، التزوير في مستندات رسمية، التنصّل من حادثة قتل عشيقته..
سينجو الشرير.. لن يقع في شرّ أعماله، ولن يتمَّ اصطياده بسبب أيٍّ من فعائله.
سينجو الشرير.. تماماً كما هو في الواقع. دعك من القصص والحكايات، ومن انتصار الخير في النهاية على الشرّ!.. هذا ما تقذفه في وجهنا الكتابات المتأنّقة. لا نريد القول المدّعية، والمنحازة دوماً إلى إعادة ترتيب الكون، وفق ما يتمنّى المرء الصالح. هذا فيلم (مدته 100 دقيقة) يقول لنا «إن الأشياء الأسوأ سوف تحدث»، وإن الأشرار ينجون في هذا العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق